بين الحشود الكثيرة المتجمهرة على الحدود الشرقية لمنطقة خزاعة جنوب قطاع غزة، كان الصغار يطلقون الطائرات الورقيّة، وقد أُلصِقت على كل طائرةٍ صورةٌ لأسيرٍ في سجون الاحتلال الإسرائيليّ، والشباب يصطفّون فوق التلّة الرملية المواجهة للسلك الحدودي مباشرة، وصوت الهتافات المندّدة للاحتلال والحاثّة على العودة عبر مكبرات الصوت تعلو مع الرياح العابثة في فراغ المنطقة، فيما يقف الحاج إبراهيم قوارع من مواليد عام 1941 والدّمعة تسقط من عينيه.
"اسم الله عليك يا عمي.. "ليش بتبكي"؟"، تفاجأ بسؤالي والإجابة بالنسبة لي بديهية ومتوقّعة أمام مشهد مسيرات العودة وفعالياتها، فالتفتَ إليَّ بعينين ذابلتين ثم ابتسم وردّ: "إيه يا بنتي، ضاعت فلسطين فلنندب فلسطينا، هاتي الدموع دماء يا مآقينا". ثمّ يمسح عينيه بطرف حطّته العربيّة الحمراء ومن فوقها العقال الأسود.
لقد بدا متعلّمًا وقد تملّك الإحساسُ قلبَه، فكلمات إحدى الشابات تلقي قصيدةً حول حلم العودة في فعالية نُظِمت في خزاعة، قد لعبت على أوتار قلبِه فأثارت بداخلِه الحنين والشوق لبلاِده كما يروي لـ"فلسطين".
الحاج قوارع المُكنى "أبو محمد" والبالغ 78 عامًا، يأتي يوميًا من خانيونس عبر سيارات الأجرة للمشاركة في مسيرات العودة، يشير بإصبعِه: "انظري هنا خلف السلك الحدودي الذي يقابلنا مباشرة كانت (الرابية)، وما أروعها من أرضٍ يانعةٍ تردّ الروح، كنت في عمر السابعة حين خطفت عقلي وقلبي برائحة حقولِها وجمال خضرتها".
ويصف قوارع المهجر من بئر السبع: "الحنين يقتلني والأشواق تنقلني لبئر السبع وأنا أجلس مكاني، وكلما ذكرتُها، أو كلما تحدّث أحد عنها، أو سمعت أي شيء له علاقة بالأرض والبلاد والعودة، أبكي، فأنا لا أتمالك نفسي أمام الوطن المسلوب والتغني به".
ويروي: "كان أهلي مزارعين وغالبية زراعتهم قمحًا وشعيرًا، ويتبادلون أحيانًا الشعير بالتمر أو الأرز وغيره مع القرى المجاورة، ما أجمل الشعور بالأمان حينها".
حقّ يعيده الرشَّاش
ويواصل: "أخبرني والدي أن الانتداب البريطاني قبل الاحتلال الصهيوني كالَ بمكيالين، إذ كان يأخذ الشباب والبنات الصّهاينة لتعليمهم على السلاح فيما يمنَع إدخال أي سلاحٍ إلينا نحن الفلسطينيين".
ويكمل: "في حين كانت النساء تقدم لأعمامي الذهب لبيعه ليقوموا بشراء السلاح، وكان مخزن السلاح آنذاك يحتمل خمس طلقات فقط، فيما تضرب طلقة واحدةً فقط في المرة الواحدة".
أبو محمد الذي درس حتى الأول الإعدادي ويقرأ العديد من الكتب الثقافية حتى اليوم ويحفظ الكثير من الشعر، ويزن كل كلمةٍ ينطقها بميزان العقل والحكمة، يرى أن "الحق ليس وإن علا بمؤيّد، ما لم يحوط جانبيه رشاش" وفق قولِه، مؤكدًا بشهادة التاريخ أن ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.
ويوضح: "الإرادة هي القوة التي تستطيع أن تصهر الفولاذ كما تنصهر كلمة المستحيل أمام أبطال التاريخ".
إلى هنا انتهى حديثي مع العم أبو محمد فودّعته وعيناه الحزينتان تخرقان حدود الاحتلال فتحتضنان أراضي الرّابية، وألتقي من بعدِه بالحاج أبو سليمان الذي تشابه مع "أبو محمد" بارتدائه الحطّة الحمراء والعقال، وبالشوق والحسرة على أراضيه التي يراها أمام عينيه.
الأكثر ألمًا
وكان أبو سليمان أبو دقّة (60 عامًا) من سكان عبسان الكبيرة يحرص على القدوم إلى الحدود يوميًا، فهو الذي لم يكن يفارقها منذ صغره، يقول لـ"فلسطين": "نحن أكثر من نشعر بالألم تجاه أراضينا المسلوبة، لأننا نراها دومًا على مرأى عيونِنا، فهي خلف السلك الحدودي مباشرة، فمذ كنا صغارًا كنا نأتي هنا لننظر إلى أراضينا بحبّ ونتمنّى لو أننا ندخلها ونعود إليها".
ويرى أبو دقّة أن "المسيرات حققت شيئاً مهمًا للغاية وهو جمع الشعب تحت راية واحدة، وقد أحيت المسيرات حقّ العودة من جديد وأرسلت رسالة للعالم أن الشعب محافظ على حقّه ولم ينسَه، وفيها تذكير للمحتلّ بأن يعود لبلادِه وأنه مهما مرّ الزمن فلن يهنأ له بال في أرضٍ ليست له وهو سارقُها"، كما يقول.
ويذكر أبو دقّة أنه منذ بدأت مسيرات العودة وقصص والدِه التي رواها له عن الاحتلال لم تغِب عن بالِه، فيقول: "حكى لي والدي كيف دخل الاحتلال أراضيهم بالسلاح، ففرّوا بأرواحهم وحين عادوا ليتفقدوا ما حلّ بالمنطقة وجدوا الحمار والبقرةَ مبقورة البطون، فحتى الحيوانات لم تسلم منهم، كيف إذًا بالإنسان".
ويضيف: "ذكر لي أيضاً أن العصابات الصهيونية قتلت من عائلتي 12 نفرًا، إنهم مجرمون".