فلسطين أون لاين

البطشُ شهيدُ الفجرِ وضحيةُ الغدرِ

لا ينبغي أن يراودَ أحدٌ الشك أبدًا في أن قاتل العالم الفلسطيني فادي البطش هو الكيان العبري، فلا أحد معنيٌّ بقتله غيره، ولا مستفيد من تصفيته سواه، فهو الذي قتله يقينًا، وهو المسؤول عن الجريمة حكمًا وقانونًا، فحكومته هي التي وافقت وصدقت على تنفيذ عملية الاغتيال، وجهاز استخباراته الخارجي (موساد) هو الذي نفذها، وعناصره هم الذين خططوا لها واطمأنوا إلى دقة تنفيذها، وأشرفوا بأنفسهم على ارتكابها، وهم الذين عملوا على إبعاد عناصر الجريمة وإخفاء أثر الجناة بتسفيرهم خارج ماليزيا، أو تغييبهم مدة فيها، وإعلامهم الذي غطى الجريمة لا يخفي شماتته، ولا يتردد في إظهار فرحته، وقادة الكيان الصهيوني في الحكومة والجيش والمخابرات أعربوا عن فرحتهم، وكشفوا عن ارتياحهم إلى ما أصاب البطش.


الكيان العبري هو القاتل بطبيعته والمجرم بسياسته، وقد لا يخفي ما ارتكب، ولا يتستر مما اقترف؛ فهو في حاجةٍ لأن يسجل انتصارًا على المقاومة الفلسطينية، وعلى سكان قطاع غزة تحديدًا، الذين حشروهم بمسيرتهم، وأحرجوهم وضيقوا عليه الخيارات بفعالياتهم، وقتلوا عندهم فرص الحسم السريع والكي الشافي بسلمية تحركهم، إذ عطلوا أسلحتهم الفتاكة، وحرموهم ذرائعهم القديمة ومبرراتهم السقيمة، ولهذا إن انتصارًا على الفلسطينيين في جانبٍ آخر وفي مكانٍ مختلفٍ قد يرضي غرورهم، ويشفي غليلهم، ويضفي على وجوههم بسمة، تعيد إليهم الأمل، وتبعد عنهم هاجس اجتياح الفلسطينيين للسياج، ودخولهم إلى المستوطنات، وانتشارهم في بلداتهم وقراهم الأصلية.


هذه المرة امتدت يد دولة البغي والعدوان إلى دولةٍ إسلاميةٍ، تكن لفلسطين وأهلها كل الحب والتقدير، وتمد لها يد العون والمساندة، وتتطلع إلى نصرتها ومساعدتها، وتتمنى أن تنتصر على عدوها وتحرر أرضها وتستعيد مقدساتها، ويخرج شعبها في كل مرةٍ متظاهرًا نصرةً لها، وينظم المسيرات الشعبية الضخمة تضامنًا معها، ويعقد على أرضه المؤتمرات والندوات التي تخطط لنصرتها وأهلها، وتنتفض غضبًا للقدس ومقدساتها، وتثور لأجل الأقصى والمسرى، وتنظم الفعاليات والأنشطة لتأييدها ولفت الأنظار إلى قضيتها، وتسليط الأضواء من جديدٍ عليها، ولا يخالج الماليزيين شكٌّ في أن أرض فلسطين ستتحرر، وقدسها ستتطهر، وسيعود الأقصى مسجدًا للمسلمين خالصًا، ولهذا اليوم هم يتهيؤون، وإلى مقدمه القرآني يتطلعون ويستعدون.


اليوم ماليزيا كلها غاضبة، ثائرة حانقة، وهي حزينةٌ جريحةٌ، صرخ شعبها منتفضًا، وخرج أبناؤها غضبًا، وصرحت حكومتها مهددةً، وأعلنت أنها لن تسكت عن هذه الجريمة، ولن تتواطأ معها، وستلاحق المجرمين القتلة، وستجلبهم إلى بلادها وستحاكمهم على أرضها، وستتعاون مع المؤسسات الدولية والمنظمات الأممية، والدول الأخرى التي ترتبط معها بعلاقاتٍ واتفاقياتٍ، حتى تتمكن من إلقاء القبض على الجناة، وسوقهم بالقوة والإكراه إلى المحكمة، وستدين من وراءهم، وستفضح الدول التي ساندتهم وساعدتهم، ومكنتهم وزودتهم بما يمكنهم من تنفيذ هذه الجريمة والفرار بعدها.


الفلسطينيون لا يشكون أبدًا في نية الشعب الماليزي، ولا يظنون في حكومتها إلا خيرًا، ولهذا إنهم يتطلعون إلى أن تجتهد الشرطة والأجهزة الأمنية الماليزية كلها في تعقب الجناة واعتقالهم، قبل أن يتمكنوا من الفرار والتواري عن الأنظار، ويأملون من الحكومة الماليزية ألا تتردد في فضح الكيان الصهيوني، وتعرية حكومته، فهو لا يحترم الحقوق ولا يراعي السيادات، وينتهك القوانين ويخترق الاتفاقيات والمعاهدات، ويرتكب جرائمه على أراضي دولٍ ذات سيادة، تبعد عن الأراضي التي يحتلها ولا تشترك معها بحدودٍ، ولا ترتبط معه بمصالح، وكأنه يعيش في غابةٍ تسود فيها الذئاب والضباع، فلا أسود تحكمه ولا قوى تحد من بطشه وتضع حدًّا لطيشه، فلو قطعت يده قديمًا ما تجرأ علينا حديثًا، ولا انتهك حرمة بلادنا اليوم.


يجب على المجتمع الدولي _وعلى وجه الخصوص العربي والإسلامي_ أن يقف مع ماليزيا، وأن يؤيدها في خطواتها، وأن يساندها في إجراءاتها لملاحقة الجناة الإسرائيليين، فقد آن الأوان لوضع حد لجرائمهم بحق أبناء أمتنا، العلماء والقادة والمقاومين وغيرهم، فقد أثخنوا فينا، واستهدفوا الكثير من أعلامنا ورموزنا، وقتلوا خيرة رجالنا وزهرة أبنائنا، وما زالوا ماضين في برنامجهم التصفوي، ومخططهم الإجرامي، إذ لم يمض وقتٌ طويل على اغتيالهم المهندس التونسي محمد الزواري، ومن قبل المجاهد القسامي محمود المبحوح، وغيرهما من علماء الأمة العربية والإسلامية، إذ قتلوا خيارهم، واستهدفوا عباقرتهم، وصفوا علماءهم وأذكياءهم، وكان هذا قديمًا وما زال، إذ انتهكوا حرمة أغلب الدول العربية والإسلامية، كما عاثوا فسادًا في العديد من الدول الأوروبية والآسيوية، الذين سكتوا عن جرائمهم، ولم يضربوا على أيديهم ليخافوا ويرتدعوا، ويتوقفوا ويمتنعوا.


يظن الإسرائيليون أنهم بجرائمهم التي يرتكبونها واغتيالاتهم التي ينفذونها يجففون عقول المقاومة، ويفقؤون عيونها ويقطعون أذرعتها، ويقضون على آمالها، ويزرعون اليأس في قلوبها، ويبددون أحلام المقاومين في امتلاك القوة والتقانة والتفوق، ويمنعونهم من تطوير قدراتهم وتحسين أدائهم، ويعطلون مساعيهم إلى امتلاك أسلحةٍ جديدةٍ ووسائل مقاومةٍ تحدث صدمة وتحقق المفاجأة في أي حربٍ أو معركةٍ قادمة، ولهذا إنهم يتسابقون في اغتيال العقول ووأد الطاقات، التي يعتقدون أنها قادرة ومتمكنة، ولها دور وعندها خبرة، ولديها الرغبة وتمتلك الإرادة، وتعمل بصدقٍ ودأبٍ، وتجرب بيقينٍ وثقةٍ، وتتطلع برغبةٍ وأملٍ إلى تحقيق الفوز والوصول إلى مراحل الغلبة والتفوق وصولًا إلى النصر.


فادي البطش شهيدُ فجرٍ جديدٍ يلحق بشهداء الفجر العظام منذ مطلع تاريخ الإسلام، وأحد رجال العتمة الصادقين، وأبطال المقاومة الصامتين، الذين نالت منهم يد الغدر الإسرائيلية بليلٍ وهم في صلاتهم خاشعون، أو من المساجد خارجون، أو إليها على طهرٍ داخلون، كشيخ الانتفاضة أحمد ياسين، الذي استهدفته صواريخ العدو وقت الفجر وهو في طريقه إلى المسجد.


لكن البطش شهيدٌ غريبٌ، ارتقى في بلاد الغربة، وفي أرضٍ بعيدةٍ، تفصلها عن الوطن آلاف الأميال، وتعزلها عن قطاعه الحبيب حدودٌ ودولٌ وسياداتٌ، وحصارٌ وقيودٌ وعقوباتٌ، فرحمة الله عليه في الخالدين، وجعله الله في عليين، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الشهداء والصديقين والنبيين، وخَلَفَ من بعده خلفًا صادقين، وَوَرَّثَ الأمانة من بعده رجالًا قادرين، هنيئًا لفادي ما قدم، وطوبى له ما ينتظر، وخالص العزاء لأهله، وصادق الرجاء للمقاومة من بعده، وكل الحب لجباليا مخيمي ومخيمه، ومسكني ومسكنه، وأهلي وأهله.