فلسطين أون لاين

​مسيرة العودة مشاهد وصورٌ

شكلت مسيرة العودة الكبرى مسار حياةٍ جديدةٍ لفلسطينيي قطاع غزة، وباتت مفردة طبيعية في حياتهم، وفعالية يومية مشوقة لا يستغنون عنها، ونشاطًا دائمًا مرغوبًا يتهيؤون لها ويستعدون لاستقبال يومها، ويترقبونها بشغفٍ وينتظرون انعقادها بأملٍ، رغم ما يكتنفهم فيها من مخاطر، وما قد يقع حوادث كبيرة كالاستشهاد والإصابة، لكن هذه الأخطار المتوقعة لا تنفي أبدًا تعلق الفلسطينيين بمسيرتهم، وإيمانهم بها، وحرصهم على الالتزام بفعالياتها، والمشاركة في أنشطتها، والحفاظ على وتيرتها والاستمرار فيها.


العلم الفلسطيني الزاهي القشيب بألوانه الأربعة الأصيلة حاضرٌ في كل مكانٍ، وموجودٌ في كل الساحات، يرفعه الفلسطينيون جميعًا، أيًّا كانت انتماءاتهم التنظيمية وولاءاتهم الحزبية، فهو الراية التي اتفق المنظمون على رفعها، وهو العلم الذي قبل الفلسطينيون الاجتماع في رحابه، والتفيؤ تحت ظلاله، فلا تنافسه رايةٌ، ولا يحل مكانه شعارٌ آخرٌ، ولا يختلف في رفعه ولا يتأخر عنه أحدٌ.


لكن الفلسطينيين لا يكتفون برفع العلم فوق خيامهم، ولا على سارياتٍ عاليةٍ نصبوها في مناطقهم، بل يقدم في كل يومٍ شبانٌ فلسطينيون، شجعانٌ لكنهم مغامرون، تملؤهم الحماسة وتسكنهم الغيرة، لا يعرفون الخوف ولا يهابون الخطر، يرفعون علم بلادهم فوق السياج الفاصل، ويزرعونه في الأرض وتدًا أمام عيون جنود الاحتلال، ويدعونه يرفرف فوق الأسلاك وعلى الرُّبى والتلال، وقد يسرع بعضهم حاملًا العلم عاليًا، ويتجه به بقوةٍ نحو السياج، ويقترب بعلمه من جنود العدو وقناصته.


يحرص الفلسطينيون خلال فعالياتهم اليومية في مسيرة العودة الكبرى على رفع الأذان وإقامة الصلوات وأدائها في أوقاتها بأعدادٍ كبيرةٍ قرب السياج الفاصل، فيبدو مظهرهم مهيبًا وحضورهم لافتًا، وأصواتهم المؤمنة على الدعاء أو المكبرة في أثناء الصلاة مرعبة للإسرائيليين، الذين يرقبونهم وهم يؤدون الصلاة، ويشاهدون صفوفهم الطويلة، وأعدادهم المرصوصة، وحركاتهم المنسجمة، وأصواتهم الموحدة؛ فيصيبهم الهلع مما يرون، ويعتريهم الخوف مما يشاهدون.


ولهذا إنهم يحرصون في كل مرةٍ على تعكير صفو صلاتهم، وتكدير جمعهم، وتشتيت صفوفهم، إذ يطلقون على المصلين قنابل الغاز المسيلة للدموع، كيما تفرق جمعهم، وتفسد صلاتهم، ومع علم المصلين بسلوك جنود الاحتلال ومعرفتهم المسبقة بنواياهم الخبيثة يصطفون أمامهم رجالًا ونساءً، وأطفالًا وشبانًا، ويتحدونهم بصلاتهم، ويثبتون أمامهم بأجسادهم العارية، وصدروهم المنتفخة، ورؤوسهم العالية المتشامخة، ويجلسون على الأرض قبالتهم يستمعون إلى الخطيب ويصغون بصمتٍ له.


تتعدد الحلقات والندوات على السياج الفاصل خلال أيام مسيرة العودة، وتتبارى الجامعات في تنظيم حلقات البحث والمناقشة، وتجتهد الهيئات القانونية والحقوقية في عقد محاكم دولية "صورية" لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وإصدار الأحكام في حق الجنود والضباط الذين يرتكبون جرائم في حق الفلسطينيين، وخلالها يستعرضون حقوق الفلسطينيين واعتداءات الإسرائيليين ومخالفاتهم للقوانين والأحكام والأعراف الدولية.


ويلتقي في الخيام المنصوبة والسرادقات الواسعة جمهورٌ كبير يستمع إلى المتحدثين والخطباء، إذ دأب مسؤولون فلسطينيون كبار على إلقاء كلماتهم العامة من على منابر مسيرة العودة الكبرى، إذ يؤم المحتجين في ساحاتهم قادةُ الفصائل والتنظيمات، ومسؤولون ونقابيون وحقوقيون وسياسيون وغيرهم، يلقون كلماتهم، ويشحذون همم أهلهم، ويشجعونهم على المضي قدمًا في مسيرتهم.


ولا يكاد يمر يومٌ دون أن يعقد منظمو مسيرة العودة مؤتمرًا صحفيًّا، يشرحون فيه أهدافهم، ويبينون مواقفهم، ويحددون فيه ضوابطهم وحدود التحرك الشعبي، وفيه يعلنون حصيلة الجرائم الإسرائيلية بحق أبناء شعبهم، وأعداد الشهداء والجرحى، والمناطق التي استهدفوا فيها، وغير ذلك من نتائج الحراك الشعبي خلال أسبوع ما بين الجمعتين.


ويشارك عامة الفلسطينيين في بطحاء الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة بأشكال مختلفة، وفعالياتٍ متنوعة، فبعضهم يلقي قصائد شعرية، وآخرون يشتركون في مشاهد تمثيلية، ويتحلق بعضهم حول واعظٍ أو شيخٍ، أو يستمعون إلى خبيرٍ أو مختصٍّ، وتنقل مكبرات الصوت التوجيهات والتعليمات، وتكرر الضوابط والإرشادات، ما يجعل المسيرة العامة يومًا حافلًا بالأحداث، ومليئًا بالمفاجآت، وزاخرًا بالفعاليات التي تبعث الحماس، وتحرض على الثبات، وتدعو للاستمرار، وتشجع على البقاء والتضحية والفداء.


أما المجلس التشريعي الفلسطيني فما كان غائبًا عن الأحداث، ولا بعيدًا عن الساحات، فقد حضر عبر سكرتاريته التي أعلنت نية المجلس عقد اجتماعٍ عامٍ لأعضاء المجلس التشريعي على السياج الفاصل خلال أحد أيام المسيرة الكبرى، وقد يشهد جلساته جموعٌ عامة من الفلسطينيين، وستطرح فيها قضايا كثيرة ومتعددة، وإن كانت هموم الأسرى والمعتقلين في مقدمة برنامجهم، وأحد أهم البنود على جدول أعمالهم.


لكن هذه المشاهد كلها لا تحجب التجمعات الشعبية على السياج، التي تقف تهتف وتكبر، وتتطلع بعيونها من بعيدٍ إلى أرضها، وتهفو قلوبها إلى مواطنها، فيكون رد جنود الاحتلال عليهم وابلًا من الرصاص القاتل والمطاطي، ومئات قنابل الغاز الخانقة والمسيلة للدموع، ظانين أن رصاصهم سيخيف المحتجين وسيردعهم، وقنابلهم ستفرقهم وستشتتهم، وأن قناصتهم ستبث الرعب في قلوبهم وترهبهم، وما علموا أن الفلسطيني قد جاء إلى أرض المعمعة وهو يعلم أنه في مواجهة عدوٍّ سيقتله، وجنودٍ سيطلقون النار عليه، وأنهم في هذه المواجهة جميعًا مشاريع شهداء أو أهداف للإصابة.


غدت لمسيرة العودة الكبرى طقوسٌ وعاداتٌ، وعلاماتٌ ومميزاتٌ، وأصبح لها مرافقها ولوازمها، وساحاتها ومراكز التجمع فيها، وأصبحت خيامها مكانًا للقاء وساحاتها مراكزًا للتجمهر والاجتماع، وكثرت فيها المشاهد الجديدة المميزة، وتعددت الصور الشعبية الرائعة، التي تدل على الوحدة والاتفاق، وعلى التعاون والإخاء، وقد يصعب على أحدٍ أن يرصد كل ما يدور في ساحات العودة من أنشطة، أو أن يسجل ما يدور في أروقتها من أحداث، إذ إنها عديدة ومتجددة، وفي كل يومٍ تبرز مشاهد جديدة، وتطغى ظواهر أخرى، الأمر الذي يجعل مسيرة العودة فرصةً للإبداع، وميدانًا رحبًا للعطاء، ولهذا لم أذكر هنا غير القليل من مشاهدها الجميلة، والنزر اليسير من فعالياتها اليومية، ومع الأيام وتوالي المقالات قد أحيط بأغلبها، وقد أسلط الضوء على أكثرها.