الذي تابع مسيرة العودة التي انطلقت من قطاع غزة نحو السياج الفاصل يلاحظ حجم المشاركة الشعبية الكبيرة، وهي تحمل رسائل عديدة، من أهمها أن حق العودة لا يمكن تجاوزه، وأن كل من يظن غير ذلك يكون واهمًا، وأيضًا أن الحصار لم ينل _ولن ينال_ من عزيمة الشعب الفلسطيني في غزة، لا بل يزيده إصرارًا على مواصلة النضال بأساليب مبتكرة.
المسيرات السلمية بدأت في ذكرى يوم الأرض الخالد، وتصل إلى ذروتها حسبما أعلن يوم ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني في منتصف شهر أيار المقبل، وأطلقوا عليه اسم "الزحف العظيم"، هي إحدى أهم الوسائل التي ترعب الاحتلال، فعلى مدار أسبوع متواصِل جمع الشبان الإطارات في غزة، وكان دعاؤهم أن تكون الرياح اليوم في صفهم في أثناء إشعال هذه الكمية الكبيرة من الكوشوك، بل كأنهم يقولون: ستجري الرياح كما نشتهي نحن، حتى أصبحت حدود غزة الشمالية حقلًا من الكوشوك، إن جاز التعبير، ليبدأ الشبان من الصباح الباكر إشعال الكوشوك، بعد أن حضروا المرايا، والمنجنيق، وهو أداة قديمة كانت تستخدم في الحرب، وحضروا قلوب أمهاتهم لشهادة محتملة، غزة انتفضت عن بكرة أبيها، وأبناؤها انتقلوا أمس من كمامة البصل إلى "أرجيلة قنبلة الغاز"، تحديًا للاحتلال وبطشه وجرائِمه، واستمرارًا في تأكيد حق العودة المقدس.
هذه المسيرات أعتقد أنها جزء رئيس وتأتي في سياق ما كان قبلها بالقدس والضفة الغربية بوجه عام، وتتكامل مع حالة النهوض الشامل الذي يسعى إليه الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة، ويمكن القول إن هذه المسيرات تشكل حالة فارقة في النضال السلمي؛ فقد أرعبت كيان الاحتلال، وجعلته يسخر كل إمكاناته أمام هذه الحشود السلمية، ليس خوفًا من أن يعودوا (الآن) إلى عكا وحيفا ويافا، لا بل خوفًا من أن تشكل هذه المسيرات نموذجًا فريدًا في مواجهة جنود الاحتلال، خاصة أنها ليست المرة الأولى، بل سبقها مسيرات شبيهة على حدود فلسطين الشمالية مع لبنان وسوريا والأردن، وارتقى خلالها شهداء وجرحى، وتعامل معها كيان الاحتلال كعادته بالقتل دون أي رادع أخلاقي أو قانوني.
ما أغاظ الاحتلال هو وحدة فصائل العمل الوطني والإسلامي وعامة الشعب في هذه الفعاليات السياسية والثقافية، وقد انخرط فيها عشرات بل مئات الآلاف من أبناء غزة على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم في التجمعات والتظاهرات السلمية على سياج الاحتلال بأعداد غير مسبوقة، فما كان من الاحتلال إلا أن رد بالفعل بمجزرة تلو المجزرة في الجمعة الأولى والجمعة الثانية.
بالفعل أتت الرياح بما لا تشتهي سفن الاحتلال؛ فهو اعتقد أنه عزل قطاع غزة، وأن مجال الاحتكاك بالقطاع هو العدوان فقط، لكن الفلسطينيين دومًا يبدعون في النضال بشكلٍ لا يتوقعه الاحتلال وداعميه، فبقى هذا النّشاط سلميًّا فقط، هدفه تعظيم الاشتباك مع الاحتلال، وإيصال رسالة إلى المجتمع الدولي بأن الفلسطينيين موحدون خلف حق العودة، في الوقت الذي كان الاحتلال يتحدث عن انفجار في قطاع غزة، لكنه كان يعمل أن يكون هذا الانفجار باتجاه الجنوب، وهذا فشل، لهذا هو مرتبك جدًّا، خاصة مع حديث عن مشاركات في اليوم نفسه بالضفة الغربية، وجنوب لبنان، والأردن، وسوريا.
لا شك أن الثمن الذي دفعه شهداء وجرحى كبير، ولكن في الوقت نفسه هذه الدماء أعادت طرح القضية الفلسطينية، ليس فقط في وسائل الإعلام، وإنما أيضًا على مستوى هيئات الأمم المتحدة وبعض الحكومات الأوروبية، وأعادت تذكير العالم بالوجه البشع لهذا الاحتلال، الذي قتل وجرح دون أن تكون هذه المسيرات تشكل خطرًا على حياة أي من جنوده، ودليل ذلك أنه لم يجرح أحد منهم، فهو يمارسون عادة القتل والتنكيل بالشعب الفلسطيني كأنه دولة فوق القانون، وتسانده أكبر دولة في العالم.