قائمة الموقع

​من نقطة "عودة" خزاعة.. لقمة عشاء هنية تكفي الآلاف

2018-04-04T09:04:12+03:00
تصوير / ياسر فتحي

بدأ الفلسطينيون في قطاع غزة بالتجمع في نقطة "عودة" خزاعة الحدودية شرق محافظة خانيونس، للعودة إلى أراضينا المحتلة عام 1948، وكعادتهم يحاولون الاقتراب من السياج "الزائل" ليمتعوا أبصارهم بالنظر إلى أراضيهم المسلوبة، فيما يقوم الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق النار بكثافة لإسقاط بعضهم بين شهيد وجريح.

مئات المشاركين توجهوا إلى قرية خزاعة الحدودية للمشاركة في مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت يوم الجمعة الماضي الموافق لذكرى يوم الأرض، وازداد العدد حتى تراوح حسب تقديرات شهود العيان بين 2500 وثلاثة آلاف شخص.

ومع ازدياد العدد، شرع بعض المتبرعين بإحضار خضار لإعداد الطعام في المكان للمرابطين فيه، فأحضروا نحو خمسة صناديق من الطماطم، وأربعة صناديق من الباذنجان، وما يزيد على 300 ربطة خبز، إضافة إلى الفلفل الأخضر والليمون والملح والطحينة وغيرها من مستلزمات العمل.. "فلسطين" تنقل في السطور التالية أجواء العمل، وترصد مشاعر الخمسيني الذي بادر بهذه الخطوة، وسعادته بما فعل.

"تقلاية بندورة"

الحاج شوقي النجار "أبو محمد"، المهاجر من بلدة سلمة في الداخل المحتل، ويسكن حاليًّا في قرية خزاعة على بعد 250 مترًا من الحدود، وهو ربّ أسرة مكونة من عشرة أفراد، تكفّل بإعداد الطعام بنفسه ودون سابق خبرة، فتلك المواقف تحتاج للهِمم أكثر.

شمّر النجار عن ساعديه وبدأ بالعمل، وهبّ لمساعدة ستة شبان آخرين ممن كانوا في المكان، فريق من الطهاة "الاضطراريين" تكوَّن في لحظات، وبدأ أعضاء الفريق بالعمل لإعداد مأدبة تكفي تلك المئات من المتظاهرين الموجودين في تلك النقطة الحدودية.

"نحن أصحاب أرض والأرض تعطينا ما نحتاج"، قالها الحاج النجار ليبين أن الحطب الذي يحتاج إليه لإشعال النار متوافر في مكان تجمع المتظاهرين، أي حيث يسكن هو، فكانت الخطوة الأولى أن تكفّل فردان من الفريق بإشعال الحطب وتجهيز النار لشواء الباذنجان، بينما تولى آخرون مهمة صنع شبكة يدوية لوضع حبات الباذنجان عليها.

"كنّا نشوي في كل وجبة صندوقًا كاملًا من الباذنجان" قال أبو محمد، مضيفا: "أعددنا موقدًا كبيرًا وشبكة كبيرة لشيّ الباذنجان بسرعة كبيرة".

لم يكن العمل عشوائيا، بل تم تنظيمه وتكليف كل فردٍ بمهمة محددة، إذ أوضح أن باقي الفريق تكفّل بفرم الطماطم والبصل والتجهيز لـ"تقلاية البندورة"، وهي طبق غزِّي شعبي مكون من البصل المفروم والفلفل الأخضر المقطع وبعض الثوم يتم تقليبها بزيت الطهو حتى تنضج قليلًا ثم تُضاف إليها قطع الطماطم المفرومة وتوابل الفلفل الأسمر، وتترك على نار خفيفة حتى تنضج، وكل ذلك جرى تجهيزه في وعاء ضخم من الأوعية المخصصة لطهي كميات اللحوم الكبيرة في المناسبات.

"دقة باذنجان"

أما الطبق الثاني الذي أعده الحاج النجار وفريق الطهاة الذي انضم له، فهو "دقة" الباذنجان المشوي مع الفلفل الأخضر والثوم والليمون وصلطة الطحينة، وهو أيضًا من الأطباق الشعبية المشهورة في قطاع غزة وفي فلسطين عموما، حيث أخذ الشبان بتجهيز الباذنجان، فقاموا بتقشيره بعد الشوي، ومن ثم تقطيعه، ودقّه مع الثوم وباقي المكونات، لتجهيز أطباق العشاء للمتواجدين في المكان.

"الحمد لله كلهم أكلوا وانبسطوا وما حدا روح جوعان".. قالها الحاج أبو محمد بفخر وسعادة، واصفا لنا كيف تمكن من تحضير هذه الكمية الكبيرة من الطعام لكل تلك الجموع. وقال: "أكثر ما أسعدني أنه لم يبقَ في المكان جائع".

سألت الحاج أبو محمد: متى كان وقت تحضير الطعام؟ فأجابني: "بدأنا قُبيل المغرب، مع بداية العتمة"، فعاودت سؤاله: "ألم تخشَ من إشعال النار على بعد 250 مترًا فقط من الحدود وفوهات بنادق قناصة الاحتلال موجهة صوبكم؟"، فأجاب: "لا، إنها أرضي وأرض أجدادي، حتى تلك التي يقفون عليها هي لنا، نحن أصحاب الحق، وصاحب الحق لا يخاف".

وصمت قليلًا ليعاود الحديث: "أعيش هنا منذ سنوات طويلة، ومنذ إعلان انطلاق فعاليات مسيرات العودة أرابط مع المرابطين حتى منتصف الليل، وكل عائلتي معي.."، مستطردًا: "أطلق جنود الاحتلال قنابل الغاز صوبنا، وإحدى هذه القنابل سقطت عندنا".

سقطت إحدى قنابل الغاز بين أعضاء فريق الطهاة "الاضطراري"، وبدلًا من أن يسارعوا إلى الهرب والنجاة بأرواحهم، هرعوا إلى ما يعدونه من طعام ليحموه من رائحة الغاز التي سرعان ما بددها الريح لتعود من حيث أتت وكأنها رسالة لهم أن أكملوا ما بدأتموه.

التغريبة الفلسطينية

واصل فريق إعداد الطعام ما بدأ به، وما إن جهز الطعام حتى بدأ الشباب بسكبه في أطباق، وتوزيعه على المرابطين في المكان في مشهد يعيد للذاكرة التّغريبة الفلسطينية، وسنوات اللجوء الأولى لللاجئين الذين لجؤوا إلى قطاع غزة الذي كان يسيطر عليه الجيش المصري عام 1948 لينجوا بأرواحهم من بطش العصابات الصهيونية.

آنذاك، لجأ المهجّرون لقطاع غزة والضفة الغربية، فاستضافتهم العائلات الغزية في قطاع غزة، والعائلات الضفاوية في الضفة، وتقاسمت العائلات، المُستضيفة واللاجئة، لقمة الطعام، تمامًا كما فعل المرابطون على حدود خزاعة في هذه الأيام، قبل أن يستقر اللاجئون في أماكنهم الجديدة بعد أن فقدوا الأمل بعودة قريبة إلى منازلهم.

وقال النجار: "لن نغادر هذه الأرض، وسنبقى نرابط في هذا المكان حتى يأذن الله لنا بالعودة إلى فلسطيننا المحتلة.. لن نقبل بالعيش في ثوب اللجوء طوال عمرنا، ولن نتنازل عن شبر من فلسطين، وإن لم يُقدّر لجيلنا أن يعود، لعلها تكون من نصيب الجيل القادم من أبنائنا وأحفادنا".

ووصف تجمع المواطنين في نقطة "عودة" خزاعة بأنها من أجمل ما حصل في قريته طوال العام، مبينًا: "الناس يأتون من محافظات من مختلفة، من غزة ورفح والوسطى، للرباط هنا".

والثمانيني أيضًا

وأوضح: "ولا يقتصر الحضور على الشبان فقط، بل إن من بينهم نساء وأطفالًا وشيوخًا كبارًا.. أمس حضر رجل ثمانيني لا يريد من الدنيا سوى أن يجلس هنا ويشم رائحة البلاد التي أجبره الاحتلال على تركها في صغره".

وأكّد: "الأجواء هنا سلمية، والقادمون إلى المكان كأنهم في رحلة أُلفة وليس حربًا ودمًا، بل إن معهم الطعام والشراب والأطفال، يجلسون ويتسامرون داخل الخيام وبين ظهرانيها، يستمعون إلى ذكريات الأجداد عن تلك البلاد الحبيبة"، مشيرًا إلى أن السكان يقدمون للوافدين ضيافة من المشروبات الساخنة مثل القهوة والشاي.

وشدد على أن "الاحتلال لا يخيف أي فلسطيني، حتى وإن ألحق به الأذى وأرداه جريحًا أو شهيدًا، بل إن الجندي الإسرائيلي المختبئ خلف ترسانته هو الخائف".

وليثبت ما يقوله عن أن الاحتلال لا يخيف الفلسطينيين، تحدّث عن تجربته، وعن تعرضه للموت أكثر من مرة، ومع ذلك يصيبه مكروه، فلا يحدث سوى "المكتوب"، إذ قال: "من له عمر سيعيش، ولن يضره شيء، ومثالكم الحي على ذلك، ما تعرّضت له أنا في الحروب الثلاث التي شنّها الاحتلال على القطاع في السنوات السابقة، إذ تهدم منزلي عليّ ثلاث مرات، وها أنا لا أزال بخير؛ لأن الله لم يرِد لي سوءًا، وكما حفظني سيحفظ فلسطين لنا".

اخبار ذات صلة