قائمة الموقع

​في حضرة الشهيد.. تكممت الأفواه لتُذْرَف الدموع

2018-04-01T07:51:17+03:00
مواطنون يشيعون جثمان الشهيد النجار (تصوير / ياسر فتحي)

حانت لحظة الوداع الأخير، فقد وصل الشهيد، حمله رفاقه إلى خيمة العزاء المخصصة للنساء، ووضعوا جثمانه حتى تلقي عليه عائلته النظرة الأخيرة.. نظرة لم تتوقع والدته أبداً أن تلقيها عليه، بل خَمَنَت أن يلقيها هو عليها، نظرة لم يكن في بال زوجته أن تعيش ظروفها وفي رقبتها أربعة أطفال أكبرهم في السابعة من عمره، وهي ذات النظرة التي حار بها أطفاله، الذين حضروا لوداع أبيهم محمولين على الأيدي.

وفي حضرة جثمان الشهيد جهاد أبو جاموس/ النجار.. صمتت الأفواه وذرفت الدموع على الوجوه، لحظة ضعف وجلد، قهر وتحسُّب، ووداعٍ ودعاء.. تحتار في تفسيرها، لكن تلك الحيرة تتبدد عندما يأتي الصَحب بمعتصم –ابن الشهيد- ذو الأعوام السبعة، ليودع أباً حرمه الاحتلال من أن يكبر في ظله وتحت رعايته، بل إنه سلبه راحة البال وسعادة العيش فهو الآن كما تقول والدته "سند البيت".

"حبيبة بابا"

أما ابنته "استبرق"، والتي جاءت هي الأخرى محمولة على الأذرع كوالدها بفارق أنها باقية في المنزل أما هو فمغادر بغير رجعة، ودعته بالدموع والكثير من الرغبات والعتب، فلقد غادرها باكراً ولم ينتظر أن يمر عيد الفطر وهما معا، غادرها قبل أن تشتري الثوب الجديد، وقبل أن تحدثه عن المعتصم كيف يزعجها فيقتص لها منه، فهي "حبيبة بابا".

بينما شقيقاها الصغيران بقيا في ظل والدتهما التي غلبتها الدموع.

أخبروها أن إصابته خطيرة.. لكنها عندما رأته فهمت أنه شهيد، وعرفت أنها ستعيش من الآن فصاعداً تؤدي دور الأم والأب والسند الذي يميل إليه أبناؤها الأربعة.. هي من اليوم بلا رفيق.

تمتمت "الله يسهل عليك وربنا يتقبلك" ثم غرقت في موجة جديدة من البكاء على "جهاد" ذلك الرجل البسيط الذي كان يعيل أسرته من جمع الحجارة وبيعها وبالكاد كان يستطيع أن يؤمن لهم الحياة الكريمة رغم شظف العيش.

لم يكن "جهاد" يدري أن مجرد وجوده مع زوجته وبين أطفاله يغنيهم عن كل مال الدنيا، وأن مبيتهم بجانبه أغلى من أي شيء، وأن وقفته في الشارع مع رفاقه ليشير إليه المعتصم وهو عائد من مدرسته "هذا أبي" لا يمكن أن تعوضها كل الدنيا.

ضمته إلى صدرها، وقبلته، ثم عادت إليه وقبلته من جديد، وأبت أن تفارق نجلها الشهيد حتى جاءت النسوة وحملنها بعيدة عن جثمانه، والدة جهاد التي ضمته وليدا وضمته رضيعا وضمته طفلا ثم شابا ثم عريسا، اليوم وبسبب الاحتلال الإسرائيلي تضمه شهيداً.

لم يعد حضن والدته يتسع له.. ليتسع له حضن الشهادة.. أن أرقد ها هنا بسلام.. حملوه إلى مثواه الأخير إلى رحلة اللاعودة، إلى رحلة الذكريات التي لن تفارق صغاره، قد لا يذكر وجهه طفلاه الصغيران لكن معتصم واستبرق لن ينسياه أبداً، بل سيحدثون أخويهما عنه كما تحدثنا جداتنا عن قرانا في فلسطين المحتلة عام 1948.

خرج جهاد، أول أمس، ليشارك في مسيرة العودة الكبرى التي دعت إليها الفصائل الفلسطينية، لكن شوقه لأرضه غلبه، واستكثر عليه الاحتلال الإسرائيلي أن ينظر إليها من بعيد، فأرداه قتيلاً برصاصة في الرأس غدرت بجسد أعزل ذنبه أنه نظر إلى ملكه الذي سلبه الاحتلال منه.

ضمته شهيداً

ذهب جثمان "جهاد" للصلاة عليه، وبعد ساعتين عاد من نفس الطريق التي لطالما سار عليه في ذهابه وإيابه، لكنه هذه المرة لم يكن يمشي على قدمه بل محمولاً على الأكتاف، وحوله صحبه وأقاربه، وما إن وصل باب خيمة العزاء حتى شرعت النسوة بالزغاريد ثانية.

ودعنه بالزغاريد واستبدلوا عبارات العزاء بالتهاني، أن منّ الله عليهم بأن في بيتهم شهيدا.. تلك التهنئة التي لن تفهمها زوجته أبدا، ولا المعتصم واستبرق، ولن تعرف معناها والدته التي فقدت به أكبر أبنائها وصديقها الذي كان رغم ضيق حاله ذراعها التي استندت إليه طوال حياتها بسبب ضعف بصر أبيه ومرضه المزمن.

رحل المشيعون مع الجنازة إلى المقبرة، وانفض عقد النسوة استعداداً لجولة عزاء جديدة، بينما بقيت زوجته وأبناؤه ووالدته وبعض الرِفقة لمواساتهم علّهم يستطيعون التنفس.. ثأرهم من المحتل حمله المعتصم وشقيقه الأصغر زهير، وحمله كل قريب ومحب لجهاد الطيّب.. كما حملته كل الفصائل الفلسطينية.

يوم حداد تعيشه غزة بسبب ارتقاء 15 شهيداً في مسيرات العودة من بينهم شهيدنا "جهاد" إضافة إلى ما يزيد عن 1500 جريح، قدموا دماءهم قرباناً لوطنهم فلسطين الذي عاث فيه الاحتلال الإسرائيلي فساداً، واستغل مسيرات العودة لقنص شبابه.

رجل طيّب

رحل "جهاد" وترك في بيته وعائلته فراغًا كبيرًا لا يمكن أن يملأه سواه، رحل وترك عائلته مكلومة مصدومة برحيله المفاجئ، والذي لن يشعر به أحد مهما بلغ تعاطفه مع هذه العائلة، والتي ستبدأ مأساتها الحقيقية بعد انتهاء العزاء وفض المعزين إلى منازلهم.

والسؤال الذي يجب أن يكون حاضراً, من سيؤمن لعائلة "جهاد" قوت يومها، ومن سيحضر ملابس العيد لأطفاله ومن سيجمع الحجارة من الطرقات ليبيعها ويحضر بثمنها الخبز لعائلته، ومن سيجيب المعتصم عندما ينادي "يا أبي"؟، تلك الأسئلة لا جواب لها إلا الدعاء أن يهب الله أهالي الشهداء الجلد والصبر على مصابهم الجلل.

غادرنا "جهاد" الطيّب، من على ثغر من ثغور الوطن، وسيرته الحسنة حاضرة في بيت عزائه، حيث أجمع المعزون على طيب أصله، ودماثة خلقه.

"رجل طيب" أكثر جملة نطقها المعزون، بينما تلهج زوجته بالدعاء له: "الله يسهل عليك".. وكأنه في رحلة سفر وليس في دار مستقر، أما والدته فلا يزال عطر ضمته على صدرها ولن يفارقها أبداً.

اخبار ذات صلة