قائمة الموقع

"أم العبد".. "مات الجمل" لكن الحق حيّ

2018-03-31T07:13:13+03:00

بلغَت من الكِبر عتيا.. ذاكرتها ضعُفت كما ضعُف بصرها، وأصبحت بالكاد تعرف أبناءها.. لكنها لا تزال تذكر بوضوح تلك الحادثة الطويلة التي عايشتها في صغرها عام 1948، إنها الثمانينية عائشة عليان "أم العبد"، من قرية هربيا المحتلة والتي تقع قضاء غزة شمالاً على بعد 15 كيلو متر فقط.

ما إن تجلس بجوارها، حتى تبدأ بسرد تلك القصة التي رغم تكرارها لم يمل أحفادها من سماعها بعد، ففي هذه القصة وطن سُلب، وقلب لا زال معلقاً بذلك المكان، وذكريات تزورها كالحلم كل ليلة.

صوامع القمح

"جاءنا الجنود المصريون وأخبروا أبي أن نلجأ إلى (التل) حتى لا يهجم علينا رجال العصابات الصهيونية من جهة البحر.. تركنا المنزل وصوامع القمح ومخازن الحبوب وحمل أبي إخوتي الصغار بينما سرت أنا وأمي معه وباقي جيراننا في القرية".. قالتها وعلى محياها ابتسامة رغم ألم ذلك الحدث، فبادرتها بالسؤال عن ذلك، لتجيب: "كان أبواي يرحمهما الله معنا..".

توقفت عن المتابعة قليلا، وكأنها تجتر تلك الذكريات، ثم واصلت الحديث: "مكثنا في التل يومًا وليلة، ولربما أكثر، ثم هبطنا بسبب الجوع من جهة، ولقلق والدي على صوامع القمح من جهة أخرى".

واستطردت: "تلك الأحداث كانت بعد موسم الحصاد، وفي تلك الأيام كنا نأكل ما نزرع ونتبادل المحاصيل بالقنطار فنكمل بعضنا بعضا.. كنت أشارك أبي في زراعة الأرض وحصادها لأنني كنت أكبر إخوتي سناً".

وأوضحت: "عندما عدنا إلى منزلنا وأرضنا كانت الأرض تلتهب من تحتنا، حركة غير طبيعية في المكان وأنباء عن مجازر ترتكبها العصابات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الذين بقوا في منازلهم، فبدا المكان غير آمن".

وبينت: "خشي أبي علينا من هجوم العصابات الصهيونية، كنا صغاراً ولا حامي لنا من بعد الله إلا أبي، والناس حولنا كانت تركب دوابها وترحل".. هنا قاطعتها بسؤالي: هل كانوا يحملون أمتعتهم؟ فأجابت: "لا.. كنا نعلم أننا سنعود والجيش المصري وعدنا بذلك".

"لكننا لم نعد" قالتها وعادت للصمت من جديد، بدت لي وكأنها تغوص في أعماق ذكرياتها، تركتها لبعض الوقت حتى تستجمع ذاكرتها المتناثرة والتي أثارت عجبي لأنها ولشدة ضعفها لا تزال تذكر تلك الأيام وكأن ذاكرتها توقفت عندها.

على جمل

عاودت الحديث معها مرة أخرى: "ثم ماذا حصل؟ كيف تركتم بيتكم؟"، أجابتني: "فكر أبي باللجوء إلى أقاربنا في غزة، وكان الجيش المصري مسيطرًا عليها آنذاك، مما جعلها الوجهة الوحيدة الآمنة المتاحة لنا حتى نلجأ إليها لبعض الوقت".

وقالت: "كان عندنا جمل، امتطاه إخوتي الصغار بينما سرت أنا إلى جوار والدي، وكلما تعبت من السير حملني على كتفيه لبعض الوقت، وما إن يتعب حتى يعيدني إلى الأرض كي أتابع المسير.. وهذا حتى وصلنا غزة وأقمنا فيها متنقلين بين منازل أقربائنا".

وأضافت: "رحلة قصيرة لأيام فقط، هذا ما توقعناه حسب الوعود المصرية، لكن ما حصل هو احتلال منزلنا وأرضنا وكل قريتنا وبقاؤنا في غزة نتنقل بين منازل الأقرباء فكان لا بد لنا من الاستقرار المؤقت حتى العودة الميمونة بإذن الله".

وتابعت: "لم نأخذ معنا سوى مصاغ أمي.. بعناه واشترى أبي قطعة أرض صغيرة وبنى عليها بيديه غرفة ومطبخا وحماما، وهذا كل ما نملك بعد أن احتل الصهاينة منزلنا وأرضنا التي كنت أقف في بدايتها ولا أستطيع أن أرى نهايتها".

وواصلت: "بذلك تحوّل أبي من صاحب ملك، إلى مستأجر عند الناس، يضمن الأراضي ويزرعها، علّه يستعيد ما كان يملكه يوما.. مات أبي وأمي.. ومات الجمل.. ولا زلت أنتظر ذلك اليوم.. هل سنعود يوماً أم سنُدفن في هذه الأرض ونحن لا نزال لاجئين؟!".

بالفخارة

لم تسمح للأسى بأن يتمالكها، وسرعان ما استعادت ذكرياتها في منزل أبيها وأرضه، قالت: "كنا نزرع القمح ونبني غرفاً من القش داخل البيارة، وأحيانا كثيرة كنا ننام فيها، أمّا منزلنا فكان قريبًا من البحر، في الصيف تصحبنا والدتي كل مساء إلى الشاطئ نسبح ونلعب ثم نعود إلى المنزل بعد الغروب".

وأوضحت: "في تلك الأيام لم نكن نعرف الثلاجات، كنا نأكل لحم الذبيحة التي ينحرها أبي، ونخبئها في جرة الفخار بعد أن نغمسها بالزيت والبصل والكثير من الملح حتى تبقى لأطول فترة ممكنة، وعندما نطهو الطعام نأخذ من الجرة ما يلزمنا من اللحم".

ولم يقتصر الأمر على اللحوم فقط، بل كانت لهم طرقهم في تخزين الخضروات مثل الكوسا والباذنجان وتجفيف عصير الطماطم لعمل الصلصة، "كنا نأكل ما نزرع، وصحتنا ممتازة، ولم نكن نعرف الأمراض مثل اليوم".. قالتها مشيرة إلى جسدها الهزيل الذين أنهكه المرض.

"متأملة ترجعي على البلاد يا ستي؟"، سألتها وأنا متيقنة من الإجابة، لكنها فاجأتني بإجابتها: "إن بقينا هكذا لن نعود يوما"، وتقصد الانقسام الفلسطيني.

وأوضحت: "عندما كنا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا غلبنا الاحتلال ببطشه وجبروته وأسلحته وقواته، أما اليوم ونحن متفرقون بينما لا يزال الاحتلال بقوته وجبروته هل نتوقع النصر؟.. لازم نتوحد يا ستي البلاد ما بترجع لحالها".

قهرت جولدا مائير

في كلماتها لحن يشدو للعودة يوما، قد لا تكون من أهل العودة وقد لا تشهد تلك الأحداث، لكنها قامت بما هو أسمى من مجرد العودة، فهذه الجدة غرست في نفوس أبنائها وأحفادها حب الوطن وذكرياته حتى تاق الأحفاد للعودة إلى منزلٍ لم يروه يوما ولكنهم ما فتئوا يسمعون عنه من جدتهم.

الجدة أم العبد.. بلسانها الرطب وروحها الجميلة استطاعت أن ترد ردّا عمليا على رئيسة وزراء الاحتلال سابقا جولدا مائير صاحبة مقولة: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، وذلك بما غرسته في أبنائها وأحفادها، وكأنها تقول إنها لن تنسى ولن تسمح لأبنائها وأحفادها بأن ينسوا..

اليوم يشارك في مسيرات العودة الكبرى التي دعت لها الفصائل الفلسطينية أبناء وأحفاد الحاجة عليان، الذين يرغبون بالعودة، بل ويصرون عليها، ليروا تلك البقعة الحبيبة من الأرض، التي أنجبت ذكريات جدتهم الحبيبة.

فهذه الجدة استطاعت أن تنقل فكر من حولها إلى بلدتهم الأصلية، إلى فلسطين الوطن، وحملتهم هم القضية، وغرست في نفوسهم أن لا تفاوض ولا تنازل عن ذكرى واحدة من ذكريات هذه الأرض فكيف الحال إن تعلق الأمر بترابها الحَيّ وحجارة منزلها الحنون الذي حوى يوما تلك الأسرة التي لم يبقَ منها سوى هذه الجدة لتعمر ذكراها بين الناس.

تركنا الجدة أم العبد تروي قصتها لآخرين لا يزالون يستمتعون بسماعها، وبينما الناس تدعو لكبارها بألا تموت قبل أن يرزقها الله حجًا لبيته الحرام، خرجنا نحن من منزل "أم العبد" نتضرع إلى الله أن يرزقها قبل الممات عودة..

اخبار ذات صلة