منذ أن بدأ الإعلان الرسمي عن مسيرة العودة الفلسطينية الكبرى في قطاع غزة، التي تتزامن مع الذكرى الثانية والأربعين ليوم الأرض، لم تتوقف اللجان الفلسطينية المتعددة عن العمل الجاد والمتواصل، كلٌ يعمل في مكانه وفي إطار المهام المكلف بها، وضمن الأطر والقواعد التي انطلقوا على أساسها، وتداعوا جميعًا بهمةٍ ونشاطٍ وحيويةٍ إليها، فقد تشكلت لجانٌ مختلفة وهيئاتٌ منظمة، توزعت على مختلف الجوانب والاتجاهات المتعلقة بهذه الفعالية الوطنية الكبرى، التي ستنطلق شرارتها الأولى في ذكرى يوم الأرض، لكن ذروتها ستكون في ذكرى يوم النكبة، وخلالها ستتواصل الفعاليات والمهرجانات، وستتعدد البرامج والأنشطة، لتبقى مسيرة العودة الكبرى متواصلة وفاعلة، ونشيطة ومتحركة، فلا تجمد على حال، ولا تتوقف عند نقطة، ولا تصل إلى مرحلةٍ فيها ييأس أهلها أو يقنط المشاركون فيها، ولا تقتصر فعالياتها على لونٍ واحدٍ منه تمل، أو تصاب بالإحباط وتضعف أو تتراجع.
لم تتوقف اللجان التنظيمية المكلفة بتنظيم أماكن التجمهر وساحات التجمع، عن العمل لحظةً واحدة منذ أسابيع مضت، فقد هيأت الأرض وسوتها، وأعدت فيها أماكن مناسبة لنصب الخيام وفتح السرادقات الكبيرة، وجهزت أماكن للراحة وحماماتٍ وبيوتًا للخلاء، وخصصت مقراتٍ للمساعدة وعياداتٍ للرعاية والعلاج، وأعدت منصاتٍ للخطابة وساحاتٍ للمهرجانات والاحتفالات، وتأكدت من توفير الخدمات الأساسية للمرابطين في الميدان، والمشاركين في المسيرة، إذ وفرت خزاناتٍ للمياه، سواءً للشرب أو للخدمة، ووضعت بتصرف اللجان التنظيمية عددًا من السيارات أو الآليات، التي تيسر لهم التنقل والحركة، لنقل المصابين نتيجة الجهد أو بسبب الاشتباكات، أو للوصول إلى مناطق التجمع الأخرى بسرعة لتنسيق العمل.
يتطلع الفلسطينيون في قطاع غزة من خلال مسيرة العودة الكبرى إلى كسر الحصار المفروض عليهم، وتحريرهم من السجن الكبير والمعتقل الواسع، الذي تقف على بواباته سلطات الاحتلال ودولٌ أخرى، تحاصره وتخنقه، وتضيق عليه وتتشدد في التعامل معه، ولهذا كان لا بد من مشاركة جميع القوى والأحزاب، والحركات والتنظيمات الفلسطينية، والفعاليات والأطر المهنية والنقابية، والشعبية والمدنية المختلفة، لئلا تكون المسيرة مجيرة لحساب فريقٍ، أو موظفة لخدمة أغراض وسياسات أي جهة، بل هي مسيرةٌ وطنيةٌ كبرى، ذات أهدافٍ وطنية عليا، تختفي فيها الشعارات الحزبية، ويمتنع المشاركون فيها عن رفع الرايات والأعلام الحزبية، ويكتفون بعلم فلسطين جامعًا، وخارطة فلسطين عنوانًا، يتوحدون تحت راية العلم وضمن حدود وأطر الوطن.
أما في الجانب الآخر فقد أفردت الفضائيات الإسرائيلية ووسائل إعلامهم المتعددة برامج عديدة، استضافت فيها شخصياتٍ مختلفة ذات اهتماماتٍ عسكرية وأمنية وسياسية وسيسيولوجية واجتماعية وغيرهم من مختلف الاختصاصات، في محاولةٍ من المستويات القيادية المختلفة في الكيان الصهيوني لفهم ما يجري، ومعرفة اتجاهات التفكير الفلسطينية، وآفاق هذا الحراك الشعبي المدني الجديد، الذي يبدو فيه الابتكار والتجديد، والحزم والإرادة والجرأة والشجاعة وعدم الخوف، بما يشبه الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى التي أربكتهم وأقلقتهم.
تفاجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الخطوة، وأقلقتها هذه المسيرة، وهالها هذا الإجماع الوطني الفلسطيني، الذي تراجعت دونه الحزبيات والفئويات، والخلافات والانقسامات، وتلاشت الحسابات الفردية والمنافع الشخصية، ولهذا تعاملت معها بجدية كبيرة، ونظرت إليها بعين الخطورة والقلق، ورأت أن فيها تحدي وجرأة، وقوة واندفاع، ومخاطرة جسورة وإرادة عنيدة، وأن أهدافها أبعد من الاحتجاج وأعمق من التظاهر.
فهي قد تعيد الاهتمام إلى القضية الفلسطينية من جديد، وقد تتسبب في ضغوطٍ أوروبية تفرض عليهم، وقد تيسر سبل التسلل واختراق الأسلاك الشائكة وتعدي الحدود إلى الجانب الآخر، الأمر الذي من شأنه أن يعرض حياة المستوطنين للخطر، وقد ينتج عن حالة القلق والخوف، والـتأهب والاستعداد، نوعٌ من المواجهة الدامية والاشتباك المسلح بين المحتجين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين، الذين سُمحَ لهم بحمل السلاح، وأجاز لهم القانون حرية إطلاق النار واستخدام القوة ضد أي خطرٍ محتملٍ.
لهذا قام رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو شخصيًا بمتابعة هذا الملف، وانشغل بنفسه للاطمئنان إلى جدية وكفاية الاحتياطات الأمنية والعسكرية، وإلى التجهيزات والترتيبات التي قام بها الجيش، فالتقى بنفسه بالقيادات الأمنية والعسكرية وطلب منهم الحفاظ على سرية خططهم، وعدم الإفصاح عن برامجهم واستعداداتهم، مخافة أن يطلع عليها منظمو المسيرة، ويتخذوا احتياطاتهم المضادة ليفشلوا إجراءات الجيش ويحبطوا خططه، ويحرجوا ببرامجهم وحراكهم الحكومة الإسرائيلية، ويؤثروا على صورتها لدى المجتمع الدولي.
ولأنها مسيرةٌ وطنية، تتطلع إلى الوطن كله، ويشارك فيها الطيف الفلسطيني كله، وتهدف إلى رفع الحصار وتحقيق العودة، وتعمل على إعادة البريق إلى القضية الفلسطينية، وفرضها من جديد على رأس قائمة الاهتمامات العربية والدولية.
ولأنها مسيرة أقلقت العدو وأخافته، وأربكته وأزعجته، ودفعته للتفكير الجاد في مواجهتها، والتصدي العنيف لوقفها، والتنسيق الدولي لمنعها، والضغط على مصر والسلطة الفلسطينية لإلغائها، وانشغلت للبحث في سبل التعامل معها المخابرات الإسرائيلية وجيشهم، واجتمع بهم وبأركان كيانهم رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو، وطالبهم بوضع خططٍ حقيقية لإجهاضها ومنع انطلاقها، أو العمل للحد من انتشارها واستمرارها.
لهذا فسأكون جنديًا فيها وأحدُ من المشاركين فيها والعاملين معها، وإن كنت خارج فلسطين، وبعيدًا عن حدود قطاعي المحاصر، إلا أنني سأشارك بالقدر الذي أستطيع، وسأساهم بالطريقة التي أرى أنها تخدم وتنفع، وسأسخر قلمي وما أعلم لخدمتها، وسأنسق مع بعض المشرفين عليها، لأكون في خدمتهم وألبي طلباتهم، وأتمنى من كل فلسطينيٍّ أينما كان أن يشارك في هذه المسيرة الوطنية، بالقدر الذي يستطيع، وبالطريقة التي تناسبه، وبالكيفية التي يقوى عليها، فهذه مسيرةٌ وطنيةٌ جامعةٌ، نتطلع من خلالها إلى كسر الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة، ورفع الغبن والضيم الواقع عليه، وإن أهلنا في غزة يستحقون منا هذا الجهد، ويستأهلون منّا بعض التضحية.