(1)
ما كنّا نقوله منذ اللحظة الأولى لوصول ترامب للبيت الأبيض، عن وجود مؤشّرات لخطّة لتصفية القضية الفلسطينية، تشترك فيها دول عربية يجمعها بـ(إسرائيل) تحالف إقليمي غير معلن، على طريق الإعلان الكامل.. هذا الذي كنّا نقوله صار حقيقة لا يجادل فيها أحد، وإن كان ثمة نقاش حول طبيعة الخطّة، والمشاركين فيها، وأدوارهم، وإن كانت ناضجة ومستقرة أم لا.
يعني ذلك أنّه كان أمامنا أكثر من سنة للاستعداد لمواجهة هذه الخطّة، نحن الفلسطينيين على وجه التحديد؛ لأنّ علينا أن نتوقع دائما أنّه لا أحد من الأنظمة العربية القائمة سيقف معنا، حتى الذين يبدون الآن قدرا معلنا من الممانعة لخطّة ترامب؛ من المؤكّد أنهم سيكشفون لاحقا عن التحاق بهذه الخطّة، وفي النتيجة، وكما هو حال بعض الدول العربية الآن، سيصطف الجميع للضغط علينا، نحن الفلسطينيين، للقبول بهذه الخطّة.
ولأنّ قيام السلطة الفلسطينية نفسها، واستمرار وجودها، مرتبط بمشروع التسوية، وبرؤية إقليمية ودولية تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، فإنّه من غير الممكن مواجهة الخطّة من داخل المنظومة نفسها، لأنّنا على الحقيقة لسنا طرفا فاعلا في حال بقينا داخل هذه المنظومة.
فعلى الأقل، ومنذ انتهاء المرحلة الانتقالية، فقدنا فاعليتنا داخل المشروع الذي أوجد السلطة، حتى ضمن المنطق الداخلي للمشروع. فالمفاوضات من الناحية الفعلية متوقفة، والأسس التي قامت عليها عملية التسوية صارت في حكم المنعدمة، والاحتلال الذي نسف اتفاق أوسلو باحتلاله للمناطق (أ) لا يقوم (فيما يتعلق بتسوية الصراع) بأيّ من التزاماته القليلة المترتبة على اتفاق أوسلو، وإن كان يقوم بالتزاماته فيما يحتوي الفلسطينيين ويضمن استمرار دورتهم الاقتصادية، الأمر الذي أفقد السلطة قيمتها النضالية من جهة أنّها كانت، لدى المنظّرين لفكرتها، قنطرة تعد بأفق أعلى للفلسطينيين، أي تعد بدولة على كامل الأراضي التي احتلت عام 67 بما فيها القدس الشرقية.
ومع أن الأفق لم يعد قائما منذ العام 2000، فإنّ لا أحد الآن يناقش، بما في ذلك الفلسطينيون من أصحاب مشروع التسوية، في كون إعلان ترامب، ثم خطته المزمعة، قد أعدم تماما كل الأسس التي قامت عليها عملية التسوية، وجعل هذا الأفق في حكم المنعدم، مما يجعل المراوحة في نفس المكان من المشروع نفسه، ضربا من العبث في أحسن الأحوال، فكيف يمكننا إذن القول إنّنا بتمسكنا بالدور نفسه والمكان نفسه يمكننا أن نواجه هذه الخطّة؟!
نعم، إنّ إعادة التموضع، والانقلاب الجذري في آليات المواجهة، بالغ الصعوبة والقسوة والمشقة والخطر، وهو أمر بدهي ومتوقع ما دمنا في مرحلة تحرر، ومتوقع أكثر ما دمنا نواجه العالم كله، أي المنظومة الدولية التي أوجدت "إسرائيل" واعترفت بها دولة طبيعية في الأمم المتحدة. ومن نافلة القول إنّ منظومتنا الإقليمية العربية جزء من هذه المنظومة الدولية، ونحن بتنا كذلك من بعد قيام السلطة، وما دام الأمر كذلك، فليس علينا إلا أن نعيد حسابتنا وصياغة أفعالنا من جديد.
والحقّ أنّنا متأخرون جدّا في ذلك، فالأمر بيّن منذ زمن بعيد، وإن زاده ترامب بيانا حدّ اليقين. وأقلّ ما يمكن فعله في هذا الاتجاه هو خلق جبهة وطنية واحدة لمواجهة هذه الخطّة التصفوية، تقوم أساسا على موضعة جديدة للسلطة، وإعادة تعريف لنفسها ودورها، ثمّ سدّ كل الثغرات البينية، بما يمنع أعداءنا من اللعب على تناقضاتنا، وبحيث نوفّر إجماعا فلسطينيّا على رفض الخطة وعلى أدوات مواجهتها. لكن وبدلا من ذلك، فإنّ الجاري هو النقيض تماما، إذ يجري تعزيز التناقضات الداخلية، والنكوص عن المصالحة إلى التصعيد وتسميم الأجواء الفلسطينية.
(2)
يمكن لقيادة السلطة أن تشكّك في المصالحة في سياقها الأخير، كما في خطاب الرئيس بعد أسبوع من استهداف موكب رئيس الوزراء رامي الحمد الله، وقد اتّهمت قيادة السلطة حماس دائما، ومنذ الانقسام الفلسطيني بأنّ هذه الأخيرة تسعى لفصل غزّة عن "المشروع الوطني"، بل ذهب الرئيس إلى أكثر من ذلك، حينما عدّ مجرد دخول حماس في الانتخابات التشريعية جزءا من خطة تصفوية أمريكية.
بهذا، وإن كانت قيادة السلطة تبرر النكوص عن المصالحة بأنّه ضرورة لمواجهة خطة ترامب، التي قد تتضمن فصل غزّة، فإنّها (أي قيادة السلطة) تتناقض من جهة موقفها من الانقسام. فالانقسام، كما تقول، سبيل لفصل غزّة. فهي ضدّ الانقسام ومع المصالحة، واستمرار الانقسام في الوقت نفسه سبيل لمواجهة خطّة ترامب.. فهي مع الانقسام وضدّ المصالحة، وللتخلّص من هذا التناقض، لم يكن من سبيل سوى بالتخلّص اللفظي الذي يقول نريد مصالحتنا لا مصالحتهم!
بيد أنّ هذا التصوّر الذي يربط بين فكرة فصل غزّة والمصالحة ووضع كلّ ذلك في سلة خطّة ترامب لا يبدو منطقيّا، من جهة أنّ سياق المصالحة الأخير، أراد بالفعل إخضاع غزّة لقيادة السلطة، لا فصل غزّة، وينبغي أن نتذكر هنا أنّ حماس تخلّت عن اللجنة الإدارية (أي إدارتها الحكومية المنبثقة عن شرعيتها، أو بكلمة أخرى عن شرعيتها الإدارية)، تخلّت عنها بطلب وتشجيع مصري. وبهذا، وبإرادة حماس، وبإغواء مصريّ، لم يعد لحماس من شرعية إدارية في قطاع غزّة، فكيف يمكن القول إذن إنّ المصالحة يُراد منها فصل غزّة؟!
على الأرجح، أراد المصريون واحدا من أمرين: إمّا إخضاع غزّة لقيادة السلطة، وبالتالي التمهيد لصفقة ترامب بالفعل، لقناعة المصريين أن قيادة السلطة ستضطر للموافقة عليها، أي لقناعتهم أن قيادة السلطة غير جديّة في رفضها للصفقة، وإنما هي مناورة شكليّة لا تضمر رفضا عمليّا، وإمّا أنّهم راهنوا على ممانعة قيادة السلطة للمصالحة، وهو أمر بدوره سيزيد من حاجة حماس للمصريين ومن يقف خلفهم، ممّا يمهّد لفصل غزّة، أو يسهّل ابتزاز حماس في سلاحها، على طريقة "احتضان الدب"، وإلا فالحرب والمقاطعة الدولية والإقليمية، السبيل لوحيد لسحق حماس، من أجل إنجاز صفقة ترامب!
الشاهد في ذلك أن النكوص عن المصالحة، على فرض إمكان هذه المصالحة ضمن النظام القائم، هو الذي يدفع نحو فصل غزّة، لا العكس، والثابت أن حيثيات المصالحة الأخيرة كانت تدفع نحو إخضاع غزّة للسلطة، لا العكس، بل افتُتحت بتجريد حماس من شرعيتها الإدارية، فكيف يقال إن المصالحة ستؤدّي إلى فصل غزّة؟! وطالما أن المصريين مع صفقة ترامب، وطالما أنّهم دفعوا لإخضاع غزّة للسلطة، فهذا يعني أنهم ومن يقف خلفهم لا يعتقدون بجديّة السلطة في مواجهة هذه الخطّة.
فإنْ كانت ثمة إرادة حقيقية لرفض خطة ترامب، فالحلّ فقط في جبهة وطنية واحدة لمواجهة هذه الخطّة، ولكن على غير النظام القائم الذي يراهن عليه المصريون ومن خلفهم، أي على غير ما انتهت إليه السلطة وجودا ودورا ووظيفة بعد انهيار بعدها النضالي بفشل مشروع التسوية، وهذه الجبهة لا يمكن أن تتشكل ما دامت حركة فتح، تحتكر القرار والتمثيل، وتحتكر تعريف المشروع الوطني الذي يجري تعريفه حصرا بالسلطة الراهنة وجودا ودورا ووظيفة، أي بما يتعارض مع المهمة الكفاحية لمواجهة المشروع التصفوي الجديد، وهذا كلّه لا يمكن أن يتأتّى في ظروف الخصومة الجارية الآن.
بالنسبة لحماس، وطالما لم يستطع المصريون ومن خلفهم احتواءها، أو نزع سلاحها بزيادة حاجتها إليهم. فمن المرجّح العمل على سحقها، بحرب وبمقاطعة دولية وإقليمية، ربما تشترك فيها، بالقوّة أو بالفعل، أطراف يُفترض أنها صديقة لحماس لكنّها لم تعد تُقدّم لها أي دعم ماديّ، في حين اقتصر دعم حماس على إيران وحدها. وهنا ينبغي وضع قانون العقوبات الأخير الذي أعدّه الكونغرس الأمريكي ضدّ حركة حماس وتضمن حثّا على تحويله إلى قرار أمميّ عبر مجلس الأمن، ينبغي وضعه في هذا السياق، أي العمل على تحطيم حماس، بصفتها عقبة في وجه خطّة ترامب لا العكس، وهذا ينفي بدوره اتهامات قيادة السلطة لحماس بكونها جزءا من خطة ترامب.
من نافلة القوّل: إن القضية الفلسطينية أكبر من فتح وحماس، ولكن هل السياسات الفلسطينية تراعي هذه الحقيقة؟! إن كانت تراعيها، فإنّ مواجهة الخطّة التصفوية لا يكون إلا بما سبق بيانه، بوحدة حال بين الضفة وغزّة، وجبهة وطنية واحدة في صدارتها فتح وحماس.