لم تكن تشعر بأن هناك لحظة فراق، وأن الغياب والألم سيملآن حياتها، ولكن زوجها الشهيد "مازن فقها" رحل في عملية اغتيال تعرض لها في 24 مارس/ آذار من العام الماضي، وترك خلفه كل الذكريات تطوف حول أهله لتخبرهم بأن الغياب قدر ومصير.
دفتر ذكرياتٍ امتد لست سنوات، أعادت "ناهد عصيدة"، زوجة الشهيد، تقليب صفحاته من جديد، بدءًا من مقدمة الحكاية "الذكرى الأولى ليست مجرد أيام وسنوات تمضي، فذكرياتنا هي امتداد لعهد قطعناه حتى اللقاء في الجنان، ففي هذه الذكرى أقف على ما أنجزته خلال عام (...) أشعر بالفخر بما عايشته من عزة وكرامة لمحبة أهل غزة لي، بعد مضي عام ما زالت ذكرى مازن حية تثبت أن الشهداء أحياء".
وبينما هي تقلب الذكريات، كانت "فلسطين" تحسن الاستماع، لتنقل إليكم ما باحت به زوجة الشهيد في ذكر استشهاده الأولى.
فرحة غير مكتملة
ما زالت عصيدة تحتفظ بكل شاردة وواردة في دفتر ذكريات مدون في تلابيب ذاكرتها، وتقول: "الشهادة هي اصطفاء لمازن ولنا حتى نسير على نهجه، اليوم أحاول صناعة نفسي بدراستي، لأترك بصمة وأثرًا كما فعل مازن، رغم افتقادي لمساندته ودعمه وفرحه الدائم لي".
لتفيض بكلماتها التي لم تهدأ من التفكير: "أتذكر في كل لحظة في حياتي في السنوات الست التي أمضيتها مع مازن، كنا نشكل لبعضنا العائلة، بعد عام من الرحيل أشعر أنه موجود معي".
من أصعب لحظات الألم، حينما تم قبول ناهد لدراسة الماجستير في تخصص التاريخ، لشدة فرحتها رفعت هاتفها المحمول لتتصل بشريك حياتها وأقرب الناس إليها، ثم ما لبثت أن وضعته في جيبها مجددًا، وعادت إلى واقعها ومسحت دمعتها، وذات الموقف تكرر حينما حصلت على تقدير امتياز في أول فصل دراسي، وتكرر أيضًا حينما سجلت نجلها محمد في الصف الأول بالمرحلة الابتدائية، لأنها لم تجد الشخص الذي كانت تعتاد أن تجده أمامها.
احتست جرعة من صمت، ثم أكملت بتحدٍ: "سأخصص رسالتي في الماجستير عن مازن، أريد كتابة شيء مني أقدم فيه مازن للناس كإنسان عاش مع ناهد، فلا أحد يعرفه أكثر مني".
تعود عصيدة إلى تفاصيل الجمعة التي لا تُنسى: "أتذكر في ذلك اليوم حينما وقعت طفلتي سما على أنفها وجرحت، في أثناء رحلة عائلية، تفاجأت من رد فعل مازن، وكيف احتضن ابنته وهو حزين والدموع تسيل من عينيه، وأخذ يعتذر لها لأنها سقطت دون أن ينتبه".
وعن عشية اليوم ذاته، تقول: "عندما عدنا إلى البيت نزل من السيارة وهو يحتضن محمد، ووضعه على سريره واحتضنه، كأنها لحظات الوداع".
تنتقل لمحطة أخرى: "أتذكر لحظة أن أكرمني الله بالحمل بابني محمد، كانت فرحة مازن لا توصف ونحن في مختبر التحاليل الطبية، حتى أنه صار يصرخ في الشارع معبرًا عن ساعدته بأنه سيكون أبًا بعد سنوات من الأسر في سجون الاحتلال".
وليس غريبا على صاحب القلب الحنون أن يبكي حينما رُزق بطفله محمد، وكان يردد: "أنا صرت أب، هذا الذي سيحمل اسمي"، أما "سما" فقد ردد الأذان في أذنها باكيًا، وتحتفظ زوجته بتسجيل لهذا المشهد.
"مازن كان شخصية متزنة وحكيمة وسديد الرأي خارج البيت، أما داخله فهو حنون وضحوك ومرهف الإحساس"، هكذا تصفه.
صدق العهد
تسترجع بعضًا من الذكريات التي قد تهدئ من اشتعال الشوق: "حينما منعني الاحتلال من دخول الضفة الغربية لرؤية أهلي، عاهدني مازن أن يكون لي كل شيء في الدنيا، وطلب مني أن أسامحه، لأنه كان السبب في ذلك المنع، وقد صدق العهد حتى آخر لحظة في حياته، فرغم انشغاله كان يتفرغ بكل موقف لأجده بجانبي".
جاء أهل مازن من الضفة لغزة في عام 2012 لحضور حفل زفافه، وبعد سبعة أيام غادروا، وأوصلهم الشهيد إلى المعبر، وعن هذه اللحظة تتحدث: "كان يشعر أنه لن يراهم ثانية، وعندما مُنعت من زيارة أهلي أدركت الحزن الذي مرّ به مازن".
لطالما أدهشها بمواقفه الاستثنائية، ففي أول أيام الزواج، انتهت مدة شحن الطاقة البديلة في بيتهما، ولم تكن ناهد معتادة انقطاع الكهرباء، فاتصلت به تخبره: "خايفة، الدنيا عتمة ومش عارفة أعمل اشي".. على الفور، استأذن لنصف ساعة من اجتماعه، ليعود إلى البيت ويشغّل "موتور" توليد الكهرباء ويطمئن عليها، ثم عاد إلى عمله.
"الناس لا يعرفوا كيف عاش مازن، فهو ما زال غامضًا"، بعد أن صمتت برهة، تكمل: "أتدرون؛ اكتشفت الشخصية العسكرية لزوجي بعد استشهاده، لا أتحدث عن صوره باللباس العسكري فهذه كنت أراها، ولكن ما أقصده طبيعة عمله وعلاقته بالضفة، كان كتومًا، ويعدّ حديثه عن عمله العسكري خيانة للأمانة".
في يونيو/ حزيران 2014، كانت ناهد على موعد مع اكتشاف هذه الشخصية، عندما اتصل ضابط من مخابرات الاحتلال فجرًا يهدد زوجها بتفجير بيته، وذلك بعد حادثة اختطاف ثلاثة من المستوطنين الإسرائيليين.
إثر ذلك، خرج مازن وأسرته من المنزل لمدة استمرت لثلاثة أشهر، لا أحد يعرف مكانهم، حتى خلال معركة "العصف المأكول".
أدركت الزوجة حقيقة الأمر، فأكّد لها ما فهمته دون أن يعطيها تفاصيل عن طبيعة عمله، وتبيّن: "حتى اليوم، ما زلت أكتشف أشياء لم أكن أعرفها".
وكانت قد بدأت تفهم عمل زوجها قبل ذلك بقليل، عندنا نشر الاحتلال اسمه ضمن قائمة للاغتيالات عام 2013، وبرر لها ذلك بقوله: "مجرد إجراءات إسرائيلية".
الفراق ومحمد وسما
كان الشهيد يحاول إسعاد زوجته بأبسط الطرق، فمثلا، عبّر عن حبه لها بعبارة كتبها بـ"قشر البرتقال"، أما حينما أنهت آخر امتحاناتها لنيل درجة البكالوريوس وعادت إلى البيت، تفاجأت بالورد والشموع وقوالب الكيك التي جهزها ليعبر لها هو وأطفاله عن سعادتهم بإنجازها.
وفي النهاية، هناك سر وراء غياب أبناء الشهيد عن المشهد، إنه أسلوب اتبعته عصيدة لتجعل حياتهم الطفولية تمرّ كما هي، وتتحمل هي وحدها ثمن الفراق، في أيام العزاء لحظة الاغتيال حرصت الأم على أن يبقى أولادها بعيدين عن هذه الأجواء فأرسلتهم بعد استشارة أخصائيين إلى المتنزهات والملاهي.
تقول: "فعلت ذلك حتى لا يشعروا بما يجري، ولأكون جاهزة للتحدث إليهم بكامل إدراكي، وحينما انتهت أيام العزاء شرحت لهم ما حصل بطريقة تناسب استيعابهم".
"بابا بالجنة ببنيلنا بيت وكلنا حنروح عنده".. هذه القصة التي روتها لأبنائه، وتوضح: "اقتنعوا بها، فلا يشعرون بالغياب ولا بأنهم يفقدون شيئًا".
وببراءة الطفولة، لطالما يخبر محمد والدته بأنه يريد "عصيرًا" من والده، فتحضره والدته وتقول إنه من والدك، وكذلك سما هددت والدتها يومًا: "بدي أشكيك لبابا"، فأجابتها أمها بذات الأسلوب: "اشكيله وراح يخبرك إنك تسمعي كلام الماما"، وبهذه الطريقة ما تزال روح مازن فقها حية في حياة هذين الطفلين، كما هي حية في كل من أحبه.
أخيرًا نسألها: هل تودين البقاء في غزة؟ ترد بالقول: "البقاء في غزة تحدده الظروف التي فُرضت علينا، في النهاية كل إنسان يتمنى الرجوع لأهله، وأتمنى أن يعيش أولادي بين عائلتهم، وأنا سعيدة هنا بين أهلي، ولم أشعر بالغربة".