فلسطين أون لاين

في الأسر.. ​طقوس عزاء لا تكتمل دائمًا

...
صورة أرشيفية
غزة - فاطمة أبو حية

قد يكون فقد عزيزٍ موقفًا من أصعب ما يمكن أن يمرّ به الإنسان طيلة حياته، لذا كان "العزاء"، يواسي الناس محبَّ الفقيد ويخففون عنه، ثم ينخرط في عراكه مع الحياة من جديد، فيجد ما يشغل تفكيره دون أن يكون كلّه منصبًّا على تذكر الراحل، لكن الحال في السجون ليس كذلك، فإذا ما وصل للأسير نبأ وفاة قريب أو عزيز يتملكه الحزن وهو في عزلته، قد يكون بمقدور الأسرى الآخرين تقديم العزاء له، وقد لا يكون.

ضحكتُ ثم انهرت

الأسير المحرر باسم نزال كان ممن خاضوا تجربة الفقد في السجن، تلقى الخبر في إحدى زيارات أهله له، زارته والدته وزوجته، ومعهما شاب من أقاربه، زيارة هذا الشاب، وسلوك الأم والزوجة كانا ينمّان عن وقوع حدث يخشون إخباره به.


ويقول لـ"فلسطين": "في وقت وفاة والدي، كان مسموحًا للأقارب من الدرجتين الثانية والثالثة أن يزوروا الأسير، فاصطحبت أمي وزوجتي معهما شابًا من الأقارب، وقد كان قبل الأسر صديقًا مقرّبًا لي، اختارتاه هو ليخبرني بالوفاة".


ويضيف: "استغربت زيارته، وتوقعت أن يكون لها سبب، وعزز توقعي سلوك والدتي وزوجتي، كلاهما شبه صامتتين، عيونهما تخفي شيئًا، فسيطر على تفكيري أن عزيزًا عليّ قد مات، سألت قريبي عن سبب الزيارة فلم يجب، فأوضحت له أنني أتوقع خبرًا سيئًا وطلبت أن يخبرني به على الفور دون مماطلة، فالمآسي جزء مما اعتدت عليه في السجن، حينها أخبرني بوفاة أبي".


ويتابع: "بكت أمي وزوجتي في هذه اللحظة، أما أنا فلم أزد على قول (الله يرحمه)، ثم بدأت بالضحك بشكل لا شعوري، وأخذت أتحدث مع الزائرين الثلاثة وأسألهم عن أحوال الناس في الخارج وآخر أخبارهم"، مواصلًا: "لا أجد تفسيرًا لضحكي التلقائي في تلك اللحظة العصيبة سوى أنني لم أكن قادرا على استيعاب الحدث، ولأنني إذا بكيت كانت الدموع ستسيطر على الزيارة".


ويوضح نزال: "بعد انتهاء الزيارة، عدت إلى غرفتي كما طفل علم للتوّ أنه صار يتيمًا، بدأ عقلي باستيعاب الخبر تدريجيًا، إذًا مات أبي، مات من كان أبًا لي ولطفلي، فقدت عزيزًا ولن أراه مجددًا، ولن أودعه قبل أن يُوارى تحت الثرى، بقيت على هذا الحال حتى انهارت أعصابي".


ويبيّن أنه عند وفاة قريب لأي أسير، يقيم الأسرى ما يشبه العزاء، يواسونه في الزيارات الصباحية والمسائية التي يتنقلون فيها بين الغرف، ويقدمون القهوة والتمر.


ويقول نزال: إن كثيرا من الأسرى فقدوا أفرادا من عائلاتهم خلال فترة الأسر، والفقد بهذه الطريقة أكثر إيلاما وأشد وطأة على النفس مما لو كانت الوفاة في وقت الحرية، فالأسير يكون بعيدا عن أهله، في مجتمع مغلق بلا مقومات للحياة، وفي أجواء لا يمكنه فيها أن يشغل نفسه بشيء يخرجه من تبعات شعور الفقد، فليس أمامه سوى التفكير في عزيزه الراحل.


مكالمةٌ في غير وقتها


في صبيحة يوم العيد، وبعد أن انتهى وقت "الفورة"، عاد الأسير "أيمن الشوا" إلى غرفته، فوجد أسيرا آخر يخبره بأنه سيعطيه الهاتف النقال ليتصل بعائلته، استغرب الشوا الأمر، فهذا ليس موعد استخدام الهاتف، فرد زميله أن الأسرى سيتصلون بذويهم لتهنئتهم بالعيد.


شكّ المحرر الشوا في أول الأمر أن ثمة ما دفع زميله لتوجيهه لمهاتفة أهله، لكنه عاد لينفي الشكوك في داخله، متوقعا أن يكون السبب أن الأسير المسؤول عن الهاتف يريد تنظيم الوقت لتجنب ضغط الاتصالات، فهذا يوم عيد وكل الأسرى ينتظرون محادثة عائلاتهم.


قال الشوا لزميله إن الساعة ما تزال التاسعة والنصف صباحا، وهو يرغب بأن يهاتف أهله ظهرا، ومع ذلك وجد إصرارا عجيبا على إجراء المكالمة، فاتصل بزوجته، فبدا البكاء واضحا في صوتها، ولما استفسر عن السبب أجابته: "والدك الله يرحمه".


يقول: "علمت فيما بعد أن أخي كان اتصل بأسير آخر يطلب منه إخباري بنبأ وفاة أبي بطريقة تهوّن عليّ وقع الخبر".


ويضيف: "كان والدي مريضا جدا، ولم تكن وفاته أمرا مفاجئا، لكنها كانت صدمة قوية، لم أملك أمامها سوى الحزن، والاتصال بعائلتي عبر الهاتف".


ويتابع: "لم أرَ والدي قبل وفاته بنحو اثني عشر عاما، بسبب إجراءات عقابية فُرضت علينا، ثم بسبب مرضه، حتى أن الحديث معه عبر الهاتف لم يكن سهلا، صوته بالكاد يُسمع، والمكالمات قصيرة"، مواصلا: "أنا ابنه البكر، كان أكثر اعتماده علي، ومع ذلك لم أره قبل وفاته، ولم أودعه عند دفنه، ولم أكن مع إخواني وأعمامي أواسيهم ويواسونني في هذا المُصاب".


ويوضح الشوا: "في مثل هذه الحالة، نقيم عزاء يشبه في طقوسه العزاء خارج السجن، لكني اكتفيت بيوم واحد فقط لأن الوفاة جاءت في أيام العيد، فلم أشأ أن أنغص على الأسرى عيدهم".


ويبيّن: "وصول خبر وفاة عزيز هو من الهواجس التي يخشى حدوثها الأسرى، وأنا شخصيا كنت أخاف في كل لحظة من أن يصلني هذا الخبر، لكون والدي كان مريضا"، لافتا إلى أن "السجن يضاعف حزننا، ومع ذلك تستمر الحياة، ونجبر أنفسنا على الخروج من حالة الحزن، ويساعدنا على ذلك أننا نشغل أنفسنا ببرامج تعليمية ونشاطات نمارسها في السجن".


ويشير الشوا إلى أنه في حال وفاة أحد أقارب الأسير يمكنه أن يتقدم لإدارة السجن بطلب لمهاتفة أهله، ويُقبل طلبه في اليوم ذاته، أو خلال عدّة أيام، بالإضافة إلى أن مدير السجن وطاقمه يزورون الأسير في هذه الحالة.


بلا مقدمات


المحرر زاهر جبارين كان قد تحدّث في حوار سابق مع "فلسطين" عن وفاة والدته وهو أسير يواجه العزل الانفرادي، وقد شكّل وقع الخبر عليه واحدة من أصعب لحظات أسره.


استدعاه الضابط بينما هو مكبل القدمين واليدين إلى الخلف، وبكل بساطة أخبره، ودون أي مقدمات أو تمهيد للصدمة: "الصليب الأحمر أبلغنا أن والدتك توفيت"، فما كان من جبارين إلا الصمت المطبق، فقد أخذ يردد في داخله: "لا حول ولا قوة إلا بالله".


عاد إلى زنزانته الضيّقة، التزم سريره، وانخرط في نوبة من البكاء، ولم يخبر أحدا من الأسرى بالأمر حتى لا ينقل إليهم حزنه، فيما كان الأسير "حسن سلامة" يرجوه على مدار ثلاثة أيام أن يخبره بسبب بكائه.


أخيرا، أخبر جبارين الأسرى بما أصابه، لكنه لم يأخذ حتى حقه في العزاء، فقد كان معزولا لا يُسمح لأي منهم بزيارته، كل ما كان بوسعهم أن يلقوا عليه السلام وبعض كلمات المواساة من نافذة باب زنزانته.


في ذلك الوقت، كان مسموحا للأسير، الذي توفي أحد أقاربه، أن يتصل بعائلته لعشر دقائق، وقد عرضت إدارة السجن على جبارين هذا الاتصال بالفعل، لكن ردّه كان: ""لا بارك الله فيكم ولا بارك في اتصالاتكم، لا أريد الاتصال منكم".