انتهى الوقت الممنوح لمختلف الأطراف عدا الفلسطينيين الرافضين لها مطلقًا، والمعارضين لها بمختلف توجهاتهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية والتنظيمية، للتعديل عليها، أو لتبديل بعض بنودها، أو لإبداء الرأي في مختلف جوانبها، ولم يبق إلا إعلانها رسميًّا، والمباشرة في فرض تنفيذها عمليًّا، وإكراه الأطراف على قبولها، ويبدو أن دول المنطقة كلها باتت تترقب خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي سيخصص لها، وفيه سيعلنها رسميًّا، وقد كان من المقرر أن يعلنها يوم الثاني عشر من شهر آذار (مارس) الحالي، ولكن الإعلان أرجئ ولم يلغَ، وتأخر ولم ينسَ، وتنتظره بعد الخطاب مرحلتان مهمتان لهما دورٌ كبيرٌ في خطته: الأولى القمة العربية التي ستبارك الصفقة، والثانية زيارته إلى الكيان الإسرائيلي في ذكرى النكبة، لافتتاح سفارة بلاده في مدينة القدس المحتلة.
المعروض على الفلسطينيين اليوم أمران لا ثالث لهما، ولا خيار أمامهم غيرهما، فإما قبول هذه الصفقة المبهمة الغامضة الغريبة العجيبة المجحفة الظالمة، مقابل رغد العيش ورفاهية الحياة، واتساع الأرض، وحرية العمل والتجارة، وانتعاش الحياة الاجتماعية، ودوران عجلة الاقتصاد المحلية، وتوفير الاحتياجات الأساسية لهم من كهرباء دائمة ومياه شربٍ نقيةٍ، وبنى تحتية جيدة، وخدماتٍ مدنية على مدى الساعة، وحرية سفر وانتقال، وجواز سفرٍ محترمٍ ومقدر، واعترافٍ دولي بكيانهم الجديد ودولتهم العتيدة، وعلاقاتٍ حسنةٍ مع الجوار العربي المحيط والكيان، ومع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا مجتمعة، ومعها سلة أخرى من تقديمات "حسن النية" الإسرائيلية، كالإفراج عن الأسرى، وإعادة جثت الشهداء، وكشف اللثام عن مصير المفقودين، وتسليم رفاتهم، إن كانوا في عداد الشهداء، والسماح للعمالة الفلسطينية بالعمل في سوق العمل الإسرائيلية في مختلف قطاعات البناء والزراعة والمعامل والمصانع وغيرها.
أما الخيار البديل للقبول والموافقة، والسير في طريق تصفية القضية الفلسطينية وإنهائها، ووضع حلٍّ نهائي وأبدي لها، يرضي "الشعب اليهودي" كله، ويحقق الأمن المطلق والدائم للإسرائيليين داخل حدود كيانهم الجديد؛ فإنه السحق الكامل والحصار الدائم والتجويع المطلق، والشطب الكلي من على الخريطة السياسية والقطاعات العسكرية، وعلى القوى السياسية أن تعمل فكرها وتحرر عقلها وتجري حساباتها، وتختار بين أن تكون ولا تكون، وبين أن تشارك وأن تشطب، وبين أن يكون لها دور وأن تهمش وتتبع، وفي خطط الصفقة الموازية تأليب الشعب على قواه، وتشجيع حركات التمرد والخروج، والثورة والانتفاضة على القوى والتنظيمات، وعلى السلطة والمنظمة.
ربما لا تعلم الشعوب العربية أن حكوماتها وقادتها أصبح أغلبهم جزءًا من هذه الصفقة وطرفًا فيها، وركنًا أساسيًّا في فرضها وتطبيقها، حتى إن بعضهم يمارس الضغط والإكراه، ويلوح بالحصار والعقوبات، والتجريد والإقصاء والحرمان، في حال لم يوافق الفلسطينيون على الصفقة ويقبلوها، ولتعلم الشعوب العربية أن حكومات بلادهم قبلت هذه الصفقة المذلة المخزية بلا مقابل، ووافقت عليها بلا ثمن، بل إن بعضها سيدفع مالًا وأخرى ستتنازل عن أرضٍ، وغيرها ستتكفل بمشاريع، وهي جميعها ستقبل التوطين وستمنح الفلسطينيين المقيمين على أرضها الجنسية، وستشطب عنهم صفة اللجوء التي حملوها معهم سنين طويلة، أي أن هذه الحكومات ستعمل في هذه الصفقة بالسخرة والإكراه، أجيرةً ومستخدمةً، وإلا فستكوى ظهورهم بالسياط الأمريكية، وسيقصون من مناصبهم، وسيحرمون سلطاتهم، وسيسقطون كما سقط غيرهم وهرب أو قتل.
لعلنا اليوم وللمرة الأولى أمام قيادتين ترفضان ما نرفض، وتعترضان على ما نعترض، وهما السلطة الفلسطينية وحكومة المملكة الأردنية الهاشية، التي تستشعر الخطر مثلنا، وتبدي خوفها أكثر منا، وتعلن معارضتها للصفقة وعدم قبولها بها، وهو الموقف نفسه الذي سمعناه من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي أعلن بوضوحٍ رفضه للصفقة وعدم موافقته عليها، ووعد بعدم تمريرها مهما كانت الأسباب.
لذا نحن مدعوون جميعًا للتوافق والمصالحة والحوار، واللقاء والتفاهم والثبات، وعلينا أن نقوي مواقفنا، وأن نوحد جهودنا، وأن ننحي مشاكلنا جانبًا، وأن نتحالف مع الموقف الأردني ما بقي معارضًا لهذه الصفقة ورافضًا لها، وعلينا أن نحرض الشعوب العربية على أن تقف معنا وتؤازرنا في موقفنا، وأن تمنع حكوماتها من الضغط على الفلسطينيين وتشديد الحصار عليهم، أو فرض عقوباتٍ جديدةٍ عليهم.
لا شك أن الفلسطينيين بين أمرين أحلاهما مرُّ، وبين خيارين أفضلهما شرُّ، ولكن المخلص للوطن، الصادق مع الشعب والنفس، والمتطلع إلى المستقبل والغد، الذي ينشد الماضي العريق وصفحات المجد التليد لا يقبل المساومة، ولا يخضع للخيارات، ولا يقبل التسويات.
فالفلسطينيون أصحاب قرار وعندهم عزمٌ وإرادة، ودونهم لا يكون حل ولا تمضي صفقة، ولا يقوى رئيس أكبر دولةٍ ولا زعيم أبغض كيانٍ أن يمليا على الفلسطينيين حلًّا لا يقبلونه، أو يفرضا عليهم تسويةً تشطب وجودهم، وتصفي قضيتهم، وتشتت المشتت من شعبهم، وتنزع عنهم جنسيتهم وتستبدل بها غيرها، أو تنفي عنهم ملكية الأرض والأقصى والمقدسات؛ فالفلسطيني هو الأساس وهو صاحب الحق الشرعي المطلق؛ فلا تمر صفقةٌ بغير إرادته، ولا يفرض حلٌّ بغير موافقته، وهيهات أن يكون بينهم خائنٌ فيفرط، أو عميلٌ فيبيع، أو مهادن فيضعف، أو متآمر فيقبل.