تبدو للوهلة الأولي أنها شبكة من الممرات الضيقة الواقعة داخل أسوار البلدة القديمة، يوفد أحدها إلى الآخر، لكن تاريخها شاهد حي منذ العهد الأيوبي حتى العهد المملوكي، فيما جدد العثمانيون بناءها جميعها.
وتشكل أسواق القدس حكاية أصيلة من حكايات المدينة، فالمتجول في الأسواق سيقرأ واقع القدس على أبواب المحلات المؤصدة وفي عيون تجارها الذين يشتكون الاحتلال والمستوطنين.
وتحتوي بلدة القدس القديمة على 20 سوقا، اكتسبت أسماءها بعضها من البضائع التي تباع فيها أو من نسبتها إلى أشخاص بارزة ومن هذه الأسواق: العطارين، اللحامين، القطانين، سوق الحُصر، سوق البازار، سوق باب السلسلة، السوق الكبيرة، سوق الباشورة التي تعني القلعة بالتركية.
وكذلك سويقة علون نسبة إلى عائلة علون المقدسية، سوق باب خان الزيت، سوق حارة النصارى، سوق الخواجات، سوق افتيموس نسبة للبطريرك اليوناني افتيموس، سوق باب العمود، سوق النحاسين، سوق باب حطة، السوق الجديدة، سوق الباب الجديد، سوق التجار.
وأوضح المرشد السياحي روبين أبو شمسية، أن أسواق القدس هي عبارة عن شوارع صغيرة وضيقة يتوزع على جوانبها محلات متقابلة ويعتليها منازل مقببة الأسقف، ولها منافذ عديدة حيث يمكنك الوصول اليها دون اللجوء لأي وسيلة تنقل.
وبيّن أبو شمسية خلال حديثه لصحيفة "فلسطين" أن الحالة الاقتصادية في مدينة القدس شكلت على مر السنين حالة فريدة من نوعها، فالمدينة تفتقر لمقومات الاقتصاد الأساسية، فندرة مصادر المياه فيها إلا من نبع وحيد يقع في الطرف الجنوبي من المدينة وتحديدا في بلدة سلوان، وندرة الأمطار وطبيعتها الطبوغرافية الجبلية حدت بشكل كبير وجود مساحات زراعية.
وقال إن العوامل السابقة لم تبقَ ما يساعد المدينة في اقتصادها إلا احتوائها على جملة متنوعة من اثار عهود مختلفة إضافة الى وجود الاماكن المقدسة فيها كالأقصى والقيامة.
وأضاف: وبناء على ذلك، كانت اقامة الأسواق ضرورة ملّحة، فأقيمت معظم الاسواق منذ العهد الروماني ومع تقدم الزمن نشأت اسواق محلية رئيسية ومتفرعة، وأكثر العهود اهتماماً لحالة الأسواق كانت في الفترة الصليبية تلاها الأيوبية والمملوكية التي ظهر فيها اكثر تجليات العصر الاقتصادي للقدس.
وأشار أبو شمسية إلى أن ما ميز العهد المملوكي هو ثبات الأسوق ضمن منظور حرفي، فيما اكتملت عناصر هذه الأسواق خلال العصر العثماني فأصبحت ذات نمطاً متوحداً وحملت مفهوم سوق الحرفة الواحدة.
واستدك: "لكن ما لبث العصر الحديث أن غير معالم هذا النمط فتنوعت الموارد والمنتجات ومواد العرض للمستهلك فيما حافظت الأسواق على أسماء حرفها القديمة".
سيطرة إسرائيلية
من جهته، أكد عضو لجنة تجار البلدة القديمة خالد الصّاحب، أن أسواق القدس لم تسلم من الهجمات التهويدية الشرسة التي تطال كل جزء من مكوناتها.
وقال الصّاحب لصحيفة "فلسطين": "رغم أن لكل سوق منها مكانتها وحكايته التاريخية، إلا ان الاحتلال يحاول جاهداً إلباس أسواق القدس ثوبًا لم يكن يومًا لها عبر تهويد بعض الأسماء، وتدمير بعض الأسواق، وإغلاق ومصادرة العديد من المحلات التجارية، إضافة إلى فرض الضرائب الثقيلة على كاهل أصحابها لتضييق الخناق عليهم".
وأضاف: "كلما تقدمت في أسواق القدس من باب العمود باتجاه باب الخليل يزداد فهمك لعمق الأزمة التي تعاني منها هذه الأسواق، فمحال تجارية هجرها أصحابها بعد أن أعلنوا افلاسهم، كما هو الحال في سوقيّ اللحامين والخواجات اللذان يلفظان أنفاسهم الأخيرة بسبب قلة روادهم؛ ولا يختلف الأمر كثيراً في سوق العطارين".
وأشار إلى أن تهويد الأسواق امتد ليصل الى أسطحها، فسوق اللحامين على سبيل المثال أنشأ الاحتلال على سطحه بؤر استيطانية ومدينة توراتية وتمد هذه البؤر فوق أجزاء من سوق الباشورة وسويقة علون؛ إضافة الى الحفلات الذي يقيمها المستوطنون فوق أسطح هذه الأسواق.
ولفت الى أن مخطط الاحتلال للسيطرة على أسطح اسواق القديمة بدأ قبل خمسة وعشرون عاما، حيث سعت سلطات الاحتلال جاهدة لتنفيذه، لكن دائرة الأوقاف الإسلامية التي تملك جُلَ المحلات وأصحاب المحلات التجارية تصدوا لهذا المخطط الذي يشمل إقامة استراحات وأماكن للمستوطنين.
اللحامين مثالا
ولتصل إلى سوق اللحامين عليك العبور بسوق خان الزيت مرورا بسوق العطارين، فقد كان هذا السوق ضخم يحوي 92 محلاً تجارياً تبيع جميعا اللحوم والدواجن، لكن السوق اليوم أصبح خاويا، تفتتح 7 محلات أبوابهم فقط ويشكون من الكساد الاقتصادي وندرة المشترين.
ومن وجهة نظر الجزار (أبو أمين) فإن الحرب الإسرائيلية بدأت عليه في العام 1989م، حينها هاجمت قوات الاحتلال السوق وأطلقت مئات القنابل الغازية فأصيب جميع المتواجدين في الاختناق الشديد وتسببت باستشهاد أحد الشبان في ذاك اليوم.
وقال أبو أمين: "استمرت هجمة الاحتلال على السوق الى الوقت الذي سيطروا فيه على سطحه وأصبحت هناك مدرسة يهودية على أسطح محلاته؛ إلا أن الضربة التي قضت على السوق كانت اقامة جدار الفصل العنصري ومنع أهالي الضفة الغربية من الوصول الى محلاتنا".
ولفت أبو أمين الى أن البيع في السوق يعتمد اليوم بشكل أساسي على سُكان البلدة القديمة، فبُعد السوق عن باب العامود وتوزع محلات بيع اللحوم والدواجن في جميع الأسواق وعدم معرفة الجيل الجديد بهذا السوق كلها بنظر، التاجر المقدسي، أسباب للحال التي وصل لها السوق.
كما يشير الجزار (أبو علاء معتوق) إلى أن سوق اللحامين قبل العام 2000م كان يعجّ بالزبائن من كل المحافظات الفلسطينية، ولم يكن السي في السوق سهلاً حينها فضيقه وكثرة زبائنه كانت تصيبه بالازدحام؛ "ولكنه كان ازدحام جميلاً ويبعث في النفس الأمل".
وقال معتوق لصحيفة "فلسطين": "استطاع الاحتلال أن يُجبر عشرات المحلات على الاغلاق بعد أن رفع قيمة الضرائب وفواتير الكهرباء عليهم، فبات أصحابها غير قادرين على الدفع والاستمرار، ولم يكن أمامهم سوى خيار إغلاقها خوفاً من تفاقم الديون عليهم لدى حكومة الاحتلال التي هددت بمصادرة كل محل تتفاقم ديونه واعتقال صاحبه".
وأكد أنه رغم المحاولات الإسرائيلية المستمرة في السيطرة على السوق إلا أنه لم يُسرب حتى اليوم أي محل تجاري للمستوطنين.