فلسطين أون لاين

طفلة في غرفة الولادة

...
صورة تعبيرية
بقلم / د. زهرة خدرج


كانت تنشغل بعبثها الطفولي في غرفتها المسكونة ببرد الشتاء، وبرد العاطفة، حينما أخذت تهاجم بطنها وأسفل ظهرها آلام لم تعتدها.. ربما تكون نوعا من التقلصات... أو... هي لا تدري تحديداً!، كما لا تدري كيف بدأت، أو إلى أين ستذهب بها.

ومن دون الكثير من الاستيضاح والتفسير، كانت تصعد الدرج المؤدي إلى قسم الولادة، ترافقها سيدتان تحمل إحداهما حقيبة قماشية متوسطة الحجم؛ بينما تمسكها الأخرى من ذراعها , جسدها الصغير يتألم قسراً، وتعتصر قسمات وجهها تحت وطأتها، فتنطلق تأوهاتها غصباً عنها معبِّرة عما يدور داخل هذا الجسد الغض؛ تتوقف للحظات تلتقط صبرها لتتابع سيرها تحت عبارات الحث التي تطلقها المرأتان.

كانت طفلة لم تتوقف عن ممارسة طقوس براءتها بعد؛ أقصد امرأة يتكور بطنها أمامها معلناً للملأ بأنها قريباً ستغدو أماً.. طفلة كبُرت قبل أوانها، أو هكذا أراد لها من حولها؛ تحت حجة أنها ستعتاد عما قريب حياة الزوجية.

أشارت الممرضة إلى باب غرفة رمادي اللون.. ولجت سجى من خلاله، وتلقت السيدتان أمراً بالانتظار في الخارج؛ خطت ببطء نحو سرير أوصلتها القابلة إليه، وانبعث الخوف ينهش قلبها عندما شاهدت الأجهزة الغريبة تحيط بها من كل جانب، ورائحة نفَّاذة لم تعتدها من قبل تعبق في المكان.. ومقصات وملاقط وأدوات طبية أخرى صغيرة الحجم لم تشاهد في حياتها قط مثلها، جعلتها تشعر بأن ما هذا إلا مسلخ اقتيدت له رغماً عنها..

سألت نفسها: ماذا تراهم سيفعلون بي هنا؟ هل سيستعملون هذه الأدوات والمقصات معي؟ ماذا علي أن أفعل لأحمي نفسي من الآلام القادمة ومن أدواتهم؟ أأهرب من هنا؟ ولكن إلى أين؟ وماذا أفعل بآلامي هذه التي تزداد وتكاد تمزق ظهري وبطني؟ أخذت تبكي وتصرخ: (ساعدني يا الله.. ليس لي سواك هنا.. أنا خائفةٌ يا رب).

جاءها الأمر بالاستلقاء على السرير.. ثم وُضع قُرصٌ سميك داكن اللون على بطنها، ثُبّت بشريطٍ مطاطي يلتف حول وسطها؛ أخذ الجهاز الذي يتصل به القرص يصدر صوتاً سريعاً ومنتظماً قالت القابلة عابسة الوجه عنه بأنه صوت نبض الجنين.

كانت التقلصات في بطنها تزداد وتيرةً واحدةً، فلا تكاد ترتاح من واحدة، حتى تلحقها أخرى تجعل بطنها يغدو شديد الصلابة كأنه حجر، وأخذت تخوض معركة من نوعٍ جديد بدأت بانتزاع ما يستر عورتها؛ وأيدٍ ترتدي قفازات طبية تعبث بها.

سائلٌ دافئ اندفع فجأة بكمية كبيرة أشعرها بالبلل والدفئ ودفعٌ قويٌ من الداخل، وببرودة أعصابٍ قالت القابلة: "ما شاء الله، الولادة باتت قريبة.. التوسع 7 سنتمتر، أدخلي الهواء إلى رئتيكِ بعمق من أنفك وأخرجيه بهدوء من فمك وكأنك تطفئين شمعة خلال الانقباضات".. وطلبت منها أن تلتف وتبقى على جانبها الأيسر.

طلبت سجى أن تدخل إليها والدتها، رفضت القابلة رفضاً قاطعاً قائلة: "ممنوع دخول أي شخص هنا سوى النساء اللاتي يتلقين الخدمة الطبية وأفراد الطاقم الطبي منعاً لانتقال أي عدوى".

اقتربت الانقباضات من بعضها، حتى كادت تصل مدة كل منها إلى ما يزيد عن دقيقة بمعدل أربع انقباضات خلال عشر دقائق، كانت الآلام تبدأ من ظهرها، ثم تنتشر في بطنها من الأعلى ثم تمتد إلى الجزء الأسفل من البطن، شعرت وكأن شيئاً يدفع الطفل داخل رحمها إلى الأسفل، وكأنه يهم بالخروج.. صرخت سجى: أرجوك.. أشعر بشيء يضغط للأسفل.. يؤلمني.. يكاد يخرج مني.. يبدو أنني سأموت.. روحي سوف تخرج.. حضر الطبيب ومعه قابلتان، وعادت القفازات الطبية مرة أخرى تعبث بجسدها.

لحظات عصيبة مرت، سمعت بكاء وليدها يبدد هدوء المكان..

تركت تجربة الولادة في نفسها أثراً سيئاً يصعب محوه لدى طفلة غضة..

كانت مشاعر الأمومة تجيش داخل صدرها، حباً وتعلقاً بهذا الصغير؛ إلا أنها لم تتقن أداء الدور المطلوب منها كما ينبغي لها.. فبعد شهرين من الولادة، أرضعت صغيرها عند منتصف الليل، وتركته ينام على ظهره إلى جانبها.. وغطته بعدة أغطية سميكة خوفاً عليه من البرد، استيقظت بعد أذان الفجر لتطمئن عليه، فإذا به بارد الجسد فاقد الحركة.. حاولت إيقاظه ولكن...

صرخت.. وبكت.. وكطفلة صغيرة بحثت عن حضن تلوذ به من الخوف الذي أخذ يمضغ شجاعتها.. لم تجد أحداً.. أصابع الاتهام وُجهت إليها: أنت مهملة.. أنت أم فاشلة.. جهلك سبب لنا المصائب...الخ.

لطخت فمها بشتيمة الصمت، وكبتت حزنها في أروقة صدرها، ولم تدافع عن نفسها بصوتها، بل راحت تردم جراح قلبها بحروف تخطها بيمينها؛ تغدو كلمات تُبكي من يجيد قراءة ما بين السطور؛ علها تبعثر حزنها المكبوت في ثنايا السحاب، وخلف الضباب.. لتهدأ الروح التي تسكن صدرها فتستعيد عافيتها وطفولتها.