بينما تدب الحركة ببطء في الصباح الباكر بمنتزه جبل "النحلي" مع قدوم بعض الزائرين وأطفالهم بغية التنزه أو ممارسة الركض، يتجمّع شبان أمام مدخل أكبر المنتزهات الطبيعية في العاصمة تونس لممارسة رياضة من نوع خاص.
شباب من مختلف الأعمار والشرائح، متقدون بالعزم ومدفوعون بحب التغيير والرغبة في كسر الجمود وتغيير نمط العقليات، من خلال ممارسة رياضة مستحدثة تقوم في آن واحد على التنزه وجمع النفايات، أحد أكثر المظاهر السلبية التي تعم البلاد قبل الثورة وبعدها.
وبعد التحية والسؤال عن أخبار بعضهم البعض، يوزع بعض الشبان على بقية رفاقهم المميزين بملابسهم الرياضية أكياسا سوداء، وقفازات شفافة تقي أياديهم مضار جمع الأوساخ والقمامة، في حين يرمقهم بعض المتجهين إلى المنتزه الغابي بنظرات فضولية ترغب في معرفة ما سيحدث.
معركة البيئة
للوهلة الأولى يبدو منتزه "النحلي" المغطى بأشجار الزيتون والكاليتوس (الكينا) والصنوبر والحدائق نقيا كالثوب الأبيض، لكن زحف ممارسي رياضة جمع القمامة على ربوعه يبوح بالمستور، إذ تتناثر أعقاب السجائر والقوارير البلاستيكية وبقايا المناديل الورقية في كل مكان تقريبا.
وبحركات مسترسلة يبدأ الشبان ممارسة رياضتهم المفضلة، مركزين على كل ما يقع عليه بصرهم من أوساخ يلتقطونها ثم يضعونها في أكياس سوداء ويمرون إلى غيرها، متقدمين تدريجيا بشكل جماعي إلى أعلى المسلك الرياضي الذي يشق المنتزه الشاسع.
الشاب الثلاثيني صابر حداد يوجه نظره يمنة ويسرة نحو الأرض بحثا عن قمامة، ويؤكد أنه يحقق بهذا النشاط ذاته، بل إنه يؤسس عليه حياته إذ تخلى عن عمله مؤخرا كمصمم فني براتب محترم لصالح النشاط البيئي التطوعي.
لم يوفق هذا الشاب بين عمله الأصلي ونشاطه على رأس إحدى الجمعيات الناشطة في تنظيم رحلات التنزه في الغابات، فقرر بحكم حبه للطبيعة أن يواصل مشوراه البيئي رغم أن تنظيم تلك الرحلات لا يجني منه أسبوعيا سوى 150 دينارا (70 دولارا) ينفقها في النقل وغيره.
ويقول صابر للجزيرة نت إنه تأثر منذ صغره بوالدته التي لا تترد في توجيه نقدها لأطفالها أو زوجها عند تجاوزهم الخطوط الحمراء ورمي الأوساخ، ومن باب المزاح كانوا يلقبونها "لبيب" وهو اسم استمزج قبل الثورة بصورة حيوان الفنك واستخدم كشعار الحملة الوطنية للنظافة.
بداية الرحلة
في يناير/كانون الثاني الماضي شرع صابر مع رفاقه لأول مرة بحياتهم في ممارسة رياضة جمع النفايات بعدما اكتشفوا فيديو يوثق لهذه الرياضة المستحدثة في السويد.
وبما أن هذا النشاط لا يكلف مالا باهظا ويقتصر فقط على شراء أكياس بلاستيكية وقفازات، وجدت هذه المبادرة تفاعلا لدى عديد الشبان -حسب صابر- من مختلف المناطق، حيث انخرط بعضهم تطوعيا للقيام بالتنظيف خلال ممارسة نشاط الرياضة.
ومنذ أسابيع شن شبان حملات تنظيف في منتزه بلفيدير وسيدي بوسعيد بالعاصمة، ومدن سوسة والمنستير وصفاقس. وتمكن هذا النوع المميز من الأنشطة من إشعار الشبان بقدرتهم على تغيير الواقع، وتمرير قيم المواطنة وحماية المحيط والبيئة إلى الصغار والكبار، مثل تمكنه في تنمية العلاقات البشرية وتقاسم التجارب والأفكار بين هؤلاء الشبان المتطوعين وأغلبهم من الطلبة.
واستقطب هذا النشاط الطالبة في شعبة الإنجليزية أمل بن يونس (21 عاما) إذ أعجبت بهذه المبادرة بعد مشاركتها السبت الماضي للمرة الأولى في رياضة جمع الأوساخ بمنتزه "النحلي" مع بقية الشباب، وذلك بعدما علمت كغيرها بهذه المبادرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ولم تتصور هذه الشابة المقيمة في مكان قريب من منتزه "النحلي" أن تعثر على الكثير من أغطية القوارير بذلك المكان "الساحر". ورغم ضعف الوعي بأهمية الحفاظ على البيئة، فإن أمل اكتشفت وجها مشرقا في المجتمع التونسي من خلال رياضة جمع القمامة.
المصدر : الجزيرة