ذلك الفتى الذي نقله الأطباء يوم وُلِد إلى الحضانة لاختناقه بغاز أطلقته قوات الاحتلال في قريته هزت كيانه "خطيئة اعتراف" الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس المحتلة "عاصمة" لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وأشعلت بداخله فتيل الانتفاضة.
مصعب فراس التميمي (16 عامًا) استشهد في الثالث من كانون الثاني (يناير) الماضي، متأثرًا بجروح خطيرة أصيب بها برصاص قوات الاحتلال، خلال مواجهات اندلعت معها لدى اقتحامها قرية دير نظام، شمال غرب رام الله.
تقول والدة مصعب _وهو أكبر إخوته الأربعة_ لصحيفة "فلسطين": "كانت ظروف القرية يوم ولادته صعبة بسبب الاقتحامات، إذ باغتتني آلام الولادة على غير موعدها لاستنشاقي كميات كبيرة من الغاز، ومنع الإسعاف من الوصول، فولدت في البيت، ونقل مصعب إلى الحضانة لاختناقه".
لعل الغاز الذي استنشقه منذ لحظة خروجه إلى الحياة غرس فيه حب الوطن والمقاومة، فعندما كان في الصفين الثالث والرابع الابتدائيين كان يخرج لمواجهة قوات الاحتلال عند اقتحامها القرية، وعندما أصبح في الصف السادس اقتحم الاحتلال بيتهم بحثًا عنه.
من تلك اللحظة بدأ الخوف يتسلل إلى قلب أمه، وخاصة عندما قرر والده السفر بصحبتها إلى الأردن للعلاج، ولكنها لم تقو على تركه وترك إخوته خوفًا عليهم من المواجهات والاعتقال، فاصطحبتهم معها إلى هناك، واستمر مكوثهم مدة أربعة أعوام، بسبب مماطلة الاحتلال ورفضه عودتهم إلى الضفة.
تضيف أم مصعب: "عند عودتنا في نهاية شهر آب (أغسطس) الماضي كان لدي شعور بأن أحد أولادي سيرتقي شهيدًا".
وقبل استشهاد مصعب بيومين اقتحم الجيش القرية، ورفضت والدته إيقاظه من نومه خوفًا عليه، فاستيقظ على أصوات جيش الاحتلال وشباب القرية فخرج، وبمجرد أن رآه الجنود أوقفوه على الحائط وكبلوا يديه وصرخوا عليه: "إنت أبو البلوزة الحمراء راح نورجيك".
تتابع والدة الشهيد: "كنت أطلب منه دائمًا أن يتلثم، ولكنه كان يرفض لأنه لا يخشى سوى الله، وفي صبيحة يوم استشهاده جلس ليتناول الفطور، ووضع يده موضع حنجرته قائلًا: (رصاصة تتمركز هنا فتقطع أنفاسي فداء للأقصى)".
كان أبوه يبدي خشيته عليه من أن يُصاب أو يُعتقل، لكن هو لم يكن يخشى ذلك، فدخل غرفته وعلا صوت هاتفه المحمول بالأناشيد الوطنية.
وعندما دخلت أمه غرفته أخرج من دولابه ملابس جديدة اشتراها أخيرًا، وأمسك يدها، وغنى لها: "يما الخبزة من إيدك طرية وفيها كل العافية"، وخرج من البيت طالبًا دعواتها، وهي تنظر إليه باستغراب.
وبدا أن مصعب كان لديه شعور بأنه سيستشهد، إذ نادى أحد أصدقائه وسأله: "كم عدد أهالي القرية؟"، فأجابه: "1350 شخصًا"، فرد عليه: "سأشفع لـ70 منهم، إن شاء الله".
وقال لصديق آخر: "لقد أصبت بالرصاص المطاطي، وبقي الحي، اليوم سأرتقي شهيدًا، هذا هو إحساس قلبي".
كالعادة اقتحم الاحتلال القرية، واعتقل شابًّا من ذوي الإعاقة الذهنية، وكان هذا الخبر كفيلًا بإثارة غضب مصعب، فنادى بين الشباب: "بدنا نرجع مصطفى (الشاب الذي اعتقله الاحتلال)، واللي بده يتراجع ما يمشي ورايا"، وتقدم الشباب بخطى واثقة.
وكأن قلب الوالدين يرى ويسمع، فالأب يخرج بين الفينة والأخرى من البيت ليطمئن على ولديه مصعب وأسامة، أما والدته فسمعت صوت رصاصة حية خرجت من فوهة البندقية، وكأنها وضعت في صدرها، وشعرت بأنها استقرت في جسد أحد ولديها، ليأتي خبر إصابة مصعب برصاصة دخلت في حنجرته وخرجت من رقبته.
تقول أم مصعب: "خرجت دون وعي، ورأيت مصعب من حينها شهيدًا لا جريحًا"، لحقت به بسيارة أحد أقاربه، وكان فوقها غيمة صغيرة كأنما ترافقها إلى المستشفى، شعرت وكأنها روح مصعب صعدت إلى السماء.
عندما أصيب مصعب كان أسامة أقربهم إليه، حمله بين ذراعيه ووضعه في سيارة والده لنقله إلى المستشفى، وقبل أن يغيب عن الوعي حدثه والده وطلب منه أن يفتح عينيه وينطق بالشهادتين.
كتابة الشعر
مصعب كان من الطلبة المتفوقين، عرف بجده واجتهاده في المدرسة، ولكن بسبب انشغاله بالمواجهات في المدة الأخيرة كان يعود إلى البيت منهكًا، ليبدأ ليلًا بالدراسة لامتحانات الفصل الدراسي الأول.
عرفته قرية دير نظام بالفتى المولع بكتابة الشعر وإلقائه، يحاول أن يقلد الشعراء ويصل إلى مرتبتهم، ومنهم هشام الجخ بشعر التأشيرة، وتميم البرغوثي وقصيدته عن القدس "من في القدس إلا أنت"، التي ألقاها على الإذاعة المدرسية ما يقارب 3 مرات بعد إعلان ترامب.
ستفتقد والدته أشعاره، فكان بعد كتابته القصائد يقرؤها على مسامعها، لكن ذلك لن يحدث بعد استشهاده.