فلسطين أون لاين

​حين يتحول حلم السفر خارج غزة إلى كابوسٍ

...
صورة تعبيرية
غزة - فاطمة أبو حية

كثيرًا ما تبدو الحياة خارج فلسطين فرصةً ذهبية للشباب الراغبين بالعمل والدراسة، ولكن بمجرد خروج الواحد منهم قد يتغير رأيه، فيبدأ بالحديث عن مساوئ الغربة، ويؤكد أنه لا بديل عن الوطن، ومنهم من يعود تاركًا خلفه نعيم الحياة، ومعلنًا قبوله المطلق بصعوبات الحياة هنا، وهناك من يرفض خوض التجربة بسبب الصورة السيئة التي رسمها عنها سلفًا، وصحيح أن هناك من تروقه الحياة في دولة أخرى، لكن معظم المغتربين يعلنون حنينهم الدائم إلى بلدهم، فما الذي يجعل الفلسطيني يتشوق إلى العودة لبلده بعدما كان ينتظر على أحر من الجمر الخروج منه؟

عدت ولكن..

"جمال علي" خرج من قطاع غزة قبل ثلاثين عامًا ونيّف ليدرس في إحدى الجامعات الأمريكية، وعد أهله ألا يطيل ابتعاده عنهم، ولما جرّب الغربة عن الأهل والوطن زاد إصراره على العودة فور تخرجه.

بعد الحصول على الشهادة الجامعية حدث ما أوقعه في حيرة كبيرة، فقد حصل على منحة لدراسة الماجستير، هذه الفرصة كانت ذهبية، ولم يرغب في تفويتها بأي حال من الأحوال، ومع ذلك هو يرغب بقوة في العودة إلى القطاع.

ويقول: "اخترت الاستفادة من المنحة، ثم اتخذت القرار نفسه عندما حصلت على منحة أخرى لنيل درجة الدكتوراة، وفي أثناء الدراسة حصلت على عمل جيّد، وبمرور السنوات بدأت فكرة العودة إلى القطاع تختفي في مقابل ازدياد أسباب البقاء بالولايات المتحدة"، مضيفًا: "هذا ما يحدث مع معظم المغتربين، يخرج الواحد منهم لدراسة أو عمل في مدة محددة، فيجد أن الغربة سيطرت عليه".

ويتابع: "طوال هذه المدة لم تغب عن بالي فكرة الرجوع إلى القطاع للإقامة الدائمة فيه، فهنا وطني وأهلي، إضافة إلى أن هذا المكان هو الأنسب لتربية أبنائي وبناتي، فأنا حريص على غرس المبادئ الدينية فيهم مع الانفتاح الذي يحيط بنا".

ويبين أنه قرر التخلي عن كل مميزات الحياة في الولايات المتحدة، والقبول بصعوبات العيش في غزة، وتدني دخله في أي عمل يعمله هنا مقارنة بما يتقاضاه هناك، قائلًا: "عدّت إلى غزة قبل نحو عشر سنوات، وقضيت مدة في البحث عن عمل، ولكن أنسب فرصة وجدتها كانت تدريس ساعات محددة في إحدى الجامعات، وهذه الوظيفة غير ثابتة وقد أفقدها في أي لحظة".

البروفيسور الذي كان يعيش مع أبنائه حياة مرفّهة قدّم الكثير من التنازلات ليجتمع بعائلته في وطنه، ولكنه لم يتخيل أنه لن يجد وظيفة ثابتة تدر عليه دخلًا مقبولًا، ما جعله يحزم أمتعته ويعود أدراجه إلى حيث غربته التي فرّ منها، ومع ذلك هو لا يزال يتمنى أن يرجع إلى غزة ليقيم فيها.

لا شيء مثل الوطن

ما حصل مع علي تخشاه "شيماء عويضة" التي تزوجت منذ ست سنوات من شاب غزي يعمل في إحدى الدول العربية، فهي وزوجها يخططان للعودة إلى غزة بعد جمع مبلغ من المال يمكّنهما من رسم مستقبل جيد لهما ولأبنائهما، ولكنها تخشى أن يطول بقاؤها بعيدًا عن أهلها.

وتقول: "قبل تسع سنوات خرج زوجي من القطاع إلى دولة عربية وجد فيها فرصة عمل مميزة، وقبل ست سنوات تقدم لخطبتي وتزوجنا وسافرت معه، وكنت حريصة على الاتفاق معه على أن غربتنا لن تطول، وقد وجدته يخطط لذلك أصلًا".

وتضيف: "حصلت بعض الأحداث التي اضطر فيها زوجي إلى الاستدانة، حتى تراكمت عليه الديون، لذا نحن مضطرون إلى البقاء حتى يسدد تلك الديون، ثم يدّخر بعض المال، وبعد ذلك نفكر بالعودة".

وتقول: "رغبتنا بالعودة نابعة من رغبتنا في عدم الخروج من وطننا والابتعاد عن أهلنا، وأيضًا إن الحياة مختلفة تمامًا عمّا تربينا عليه من التزام ديني وعادات وتقاليد، فنحن نشأنا في بيئة محافظة، لكن الوسط الذي نعيش فيه الآن مختلف تمامًا"، مضيفة: "قد يظن بعض أن توافر فرص العمل، والرواتب المرتفعة، والحياة الخالية من الصعوبات الموجودة في غزة سبب كافٍ للخروج منها، ولكن في الحقيقة الوطن لا يعوضه شيء، مهما كانت الحياة فيه صعبة".

فقدت الأمل

"فاطمة البايض" فقدت الأمل في العودة إلى فلسطين، فهي بقدر ما تتمنى الرجوع زوجها مصممٌ على البقاء في الدولة الأوروبية التي ذهب إليها بعدما أنهى دراسته الثانوية، فدرس وعمل هناك، ولم يزر أهله مطلقًا، حتى إنه عندما تزوج اختارت له أمه العروس من هنا وسافرت إليه دون أن يأتي لإقامة حفل زفاف.

تقول البايض: "كان السفر حلمًا يسيطر على تفكيري، ولطالما تمنيت أن أتزوج من شخص يقيم في أي دولة أخرى، فقد كنت أظن أن الحياة في الخارج وردية تمامًا، فيها ما يكفي من المميزات، وخالية تمامًا من الصعوبات".

وتضيف: "في السنة الأولى من زواجي كنت مبهورة بحياتي الجديدة، حيث الوضع المادي الأفضل، وسهولة الحياة، وخلوها من التعقيدات الموجودة في غزة كانقطاع الكهرباء ونقص بعض السلع والحصار، ولم يكن يتعبني خلالها سوى اشتياقي إلى أهلي".

وتقول: "شيئًا فشيئًا بدأ بريق الحياة يتلاشى، ومساوئ الغربة شقّت طريقها إلى الظهور بقوّة، فأنا هنا وحيدة، أفتقد بشدة كل تفاصيل حياتي والذكريات التي تملأ كل زاوية في بيت عائلتي، غير أن زوجي لا يسمح لي بالعمل نظرًا إلى اختلاف المجتمع الأوروبي عن مجتمعنا الفلسطيني".

وتتابع: "يمكنني القول: إن وجود المرء في بلده أفضل، مهما كانت الصعوبات التي يواجهها، فالآلام هنا كثيرة، فمثلًا: يكفيني أنني أنجبت دون وجود أمي أو أي من أفراد أسرتي إلى جواري"، متابعة: "سئم زوجي إلحاحي المتواصل عليه بالعودة إلى غزة، وفقدت أنا الأمل في استجابته لي، وأكاد أجزم أنه الشخص الوحيد الذي يتمسك بالغربة إلى هذا الحد من بين كل المغتربين الذين أعرفهم".

التجارب غير مشجعة

أما "محمد هاني" فيرفض الغربة، مع العروض الجيّدة التي من شأنها أن تشجّع أي شاب في سنه على السفر، ويقول: "والداي وأعمامي جرّبوا الغربة، وكلهم يتحدثون عن قسوتها، ويقولون إن أفضل ما حدث في حياتهم هو قدومهم إلى القطاع".

ويضيف: "وُلد أبي وأعمامي في مصر بحكم هجرة أجدادي إلى هناك عام 1948م، ثم تفرقوا وذهب كل منهم إلى بلد، ولم يدخلوا فلسطين إلا بعد 1995م، وكانوا حينها متزوجين ولهم أبناء وأحفاد"، متابعًا: "غزة كانت مكانًا جديدًا عليهم، لكنهم عرفوا فيها الاستقرار".

ويكمل: "دومًا يؤكد لي والداي أنهما مع كل النعيم الذي عايشاه بفعل تجارة أبي المزدهرة لم يشعرا بالاستقرار مطلقًا، لأسباب متعددة، أهمها أن الفلسطيني مهدد أينما كان، ولذا قدما إلى غزة في أول فرصة تمكّنا فيها من فعل ذلك، وكرر التجربة نفسها ثلاثة من أعمامي".

أخت هاني الكبرى تزوجت قبل وقت بسيط من قدوم العائلة إلى القطاع، فلم تأتِ مع أهلها لارتباطها بالمكان الذي فيه زوجها، وإنها كثيرًا ما تحذّره وباقي إخوانه من الغربة.

ويقول: "خيارات السفر أمامي متعددة، فأنا أضمن أكثر من فرصة عمل مع بعض أقاربي في الخارج، ولكن التجارب غير مشجعة على الإطلاق، فمعظم المغتربين الذين أعرفهم لا يذكرون الغربة إلا بكل سوء".