"كلما اشتد جوعهم، تظاهرتُ بالنوم حتى أستدرجهم للنوم بجواري فأهرب من بكائهم الطويل.."، قالتها لي وذهني يعيد قصة المرأة الفقيرة التي صادفها عمر بن الخطاب في إحدى ليالي عسس الرعية والتي كانت توهم أطفاها بأنها تطهو الطعام حتى يناموا، أما هي فتبقى مستيقظة تدعو على عمر حتى أرسل الله لها عمراً بنفسه.
دون "ساندوش"
"سهام" هي أمٌ في العقد الثالث من العمر، لديها من الأبناء خمسة، أكبرهم في الصف السادس الابتدائي، أما أصغرهم فهو طفل حديث الولادة.. زوجها تاجر انتكس عمله وتدهور حاله بسبب تورطه بذمم مالية لتجار آخرين، جعلته قيد الحبس على الدوام، يخرج من السجن لعدة أشهر ثم يُعاد اعتقاله لعدة أشهر أخرى وصلت إلى قرابة الثلاثة أعوام.
شقيقه رأف بحاله، وأشفق عليه وعلى أسرته التي لم يعد يقوى على دفع إيجار منزل يأويها، فمنحه غرفة في منزله، مكث فيها فترة من الزمن، حتى ألمّت به فاقة هو الآخر واضطر لبيع المنزل، لتجد "سهام" نفسها وأولادها الخمسة في الشارع.
لا منزل ولا فراش ولا مقتنيات ولا أي شيء، هي جليسة الشارع مع أطفالها الخمسة، وما بيدها حيلة، ولا عندها كسرة خبز واحدة.. حالتها البائسة تلك دفعتها لطلب العون من الناس حتى صادفتها عائلة قبلت أن تأويها في منزل مكون من غرفة وصالونين ومطبخ ودورة مياه لقاء أجر قدره 300 شيكل لا تملك منها سهام شيكل واحد.
أحد المتصدقين منحها 100 شيكل دفعتها من إيجار المنزل المستحق عليها، والباقية لا تعلم من أين تأتي، أو كيف ستأتي؟، منزل رغم صغره حقق لـ"سهام " مبتغاها بالستر وهي تقيم فيه منذ أسبوع.
البرد قارس نعم، لكن حال "سهام" لا تسمح بتوفير الأغطية الكافية للأطفال، بل إنها لا تستطيع تأمين ثمن كسرة خبز لهم، عن حالها، قالت: "لجأت لمنطقة نائية لا أعرف فيها أحد، والعائلة التي أوتني عطفت علي بربع اسطوانة غاز وعلبتي شاي وميرمية، وهذه الأشياء هي كل ما نملك".
وأضافت: "رغم أني لا أعرف أحدًا من السكان إلا أنني أرسل أطفالي للجيران لطلب الخبز، فيعودوا لي بخبز الطينة، وهو ما نعيش عليه طوال اليوم"، متابعة: "أما في الليل، إن اشتد جوعهم أتظاهر بالنوم حتى استدرجهم للنوم بجواري، فإن ناموا نهضت أفكر ماذا سأقول لهم في الصباح عندما يطلبوا مني (ساندوش) يأخذوه معهم إلى المدرسة، أو حتى مصروف".
واستطردت: "أحياناً أضطر لوضع القدر على النار حتى أوهمهم أني أعد الطعام لهم فيجلسون بانتظار الوليمة المزعومة حتى يناموا، وفي الصباح لا يجدوا ما يأكلوا، فيذهبوا إلى المدرسة فارغي البطون".
أما هذا الطفل – أشارت إلى مولودها الجديد- فهو من الأطفال الخُدَّج، ويحتاج إلى نوع خاص من الحليب ومتطلبات أخرى أقلها توفير الحفاضات، بينما لا يتوفر لنا سوى ما يمن علينا به الجيران.
فقط.. طعام
"فقط أريد إطعام الأطفال وكل شيء بعده هين".. قالتها الأم، وفي نفسي قلت ما هو أكثر، فهذه الأم لم تطلب الحليب الخاص لطفلها، ولا أغطية لليل أطفالها البارد، ولم تطلب إكمال إيجار المنزل الذي قد تطرد منه، هي فقط تطلب الطعام.
تعيش "سهام" وأطفالها في المنزل الجديد بمساعدة الجيران وهباتهم، ولا أبالغ عندما أقول إنها عاشت أسبوعها الماضي على شرب الشاي و"فت" الخبز البلدي فيه، وهو كل ما توفر لها حتى اللحظة.
سعت "سهام" لتسجيل اسمها في سجلات وزارة الشؤون لتحصل على المساعدة، لكنهم الرد الذي حصلت عليه –كما قالت- أنه يجب أن يكون أحد أفراد الأسرة مريض حتى تستحق الشؤون، وتتمكن من العيش هي وأطفالها، وهذا الشرط لا ينطبق عليها.
تحيا الأم العادية في أي مكان وزمان وهي تفكر في مستقبل أبنائها، كيف سيكونون في ذلك الوقت، وما هي المراتب التي تحلم في أن يصلوا لها، ولكن "سهام" أم من نوع مختلف، فهي لا تفكر في المستقبل قط، بل إنني أشك إن كانت تتذكره أو يخطر لها على بالها، فهذه الأم تدفع ساعات عمرها هرباً من بكاء أطفالها جوعاً..
تكره "سهام" الليل الذي يوقظ في أطفالها وجبة "قبل النوم" وتكره ضوء الشمس الذي يخبرهم أن نهاراً جديداً قد طلع وبالتالي عليهم أن يتناولوا وجبة طعام لهذا اليوم، وفي كلا الحالتين لا تملك إلا الشاي و"ربع" جرة من غاز الطهي قد تنتهي في أي لحظة، بينما تتجدد مأساتها إلى أن يشاء الله..