فلسطين أون لاين

​الفشل الكلوي .. موتٌ غير رحيم يُلح في طلب "منذر"

...
غزة - رنا الشرافي

بدا كقيثارة مفرطة الحزن باذخة الألم، سلبتها آلة غسيل الكلى وترين من أجمل أوتارها، واستبدلت لونهما النحاسي بالأحمر القاني.. تلك الدماء لم تكن عادية، فهي مجبرة على القيام برحلة "سادية"، دفعها نحوها طغاة الوجع الذين ختموا على حياة "منذر" بالشمع الأحمر، وقالوا: ممنوع أن تعيش أكثر..

كان في الثانية عشرة من العمر، فتى أسمر البشرة نقي الروح، يجوب الأرض مرحاً، صديق محبوب ومسامر، خفيف الظل، ومشجع كرة قدم متعصب، عندما بدأ الألم بزيارته، ظن أهله أن أوجاعه ناتجة عن تراكمات أملاح حول الكلى، لكنها جعلت منه ضيفا دائما للمستشفى على مدار تسع سنوات لاحقة.

كوب ماء

ورغم أن ألمه حرمه من متابعة تعليمه المدرسي، إلا أنه لم يمنعه من الطموح والتفكير في المستقبل، وكأي شاب في مقتبل العمر، كان ينشد بابًا للرزق يحصل منه على مصروف جيد ويساعد به أسرته التي افتقرت بعد كساد تجارة أبيه وتراكم ديونه للتجار الآخرين، وهناك سبب آخر لن أفشيه الآن.

هو كأي مراهق كان يفكر في مستقبله ولكن دون أن يخبر أحدًا، بما في نيته فهو الآن في العشرين من العمر وعليه أن يعمل، وأول فكرة خطرت في باله، وكانت أيسر فكرة من حيث التنفيذ، هي أن يبيع خبز "الفينو" على عربة خشبية يجرها بيديه اللتين لم تعودا تقويان على حمل كوب ماء.

فكان عندما يخرج من المستشفى إثر كل وعكة صحية تلم به، يلملم بقايا روحه المبعثرة من فرط الألم، ويتجه فجراً للمخبز حتى يشتري مبيعاته، وينزل في جولة صباحية مبكرة ينادي "طازة يا فينو"..

نسمات باردة تثلج الصدر، وشمس نصف مشرقة، ووجوه صغيرة مبتسمة تطلب منه قطعة خبز، مشهدٌ اعتاد منذر أن يراه، بل ويتأمله، ويسرح في خياله، عندما يرى طفلًا مع والده، ويتذكر كيف كان والده يصحبه وهو صغير لشراء "الفينو" من الباعة المتجولين.. ويرنو بناظريه بعيداً هل سأمسك يداً صغيرة كهذه فجرا وأسعى خلف بائع الكعك لأشتري لها قطعة؟، هل المرضى المتوعكون دائما مثلي يتزوجون؟

لم يكن يستطيع أن يصرح بتلك الأفكار لأحد، كانت تدور في خلده كأي فكرة ممنوعة.. وكعادته ألمت به وعكة صحية جديدة بات على إثرها في المستشفى لعدة أيام، قبل أن يعلم بالفاجعة فهو ليس عليلاً فقط، بل هو مريض فشل كلوي لا يستطيع العيش دون جهاز معلق في صدره، يرغمه على زيارة المستشفى مرتين أسبوعيا.

يوم مفتوح

موعد جلسة غسل الكلى، يكون بمثابة "يوم مفتوح" كما في المدرسة –أيام زمان- يمكن لمريض الكلى أن يأكل ما يشتهي، قبل الذهاب إلى المشفى وحجز موعد لغسيل الكلى والانتظار ساعات وساعات قبل أن يأتي دوره والذي يستغرق فيه نحو ثلاث ساعات ونصف تقريبا.

يجلس إلى جهاز له صوت هدير مرعب، يستلقي على سرير بائس كساعاته الثلاث المقبلة، ينتظر الممرض ليضع تلك الأنابيب في ساعديه، وأمام عينيه، يشاهد دمه يتدفق عبر تلك الأنابيب داخل الجهاز لتعود إلى جسده من جديد، في رحلة قسرية جبرية لا يمكن أن يستمر في حياته دون أن يخضع لها مرتين أسبوعيا.

"ابني بموت.. وأنا مش قادرة أعمله حاجة" قالت والدته معبرة عن فرط ما يشعر به نجلها من ألم، وأضافت: "رفضت في البداية أن يخضع لغسيل الكلى لكن عندما تدهورت حاله، وبدت لي روحه كالماء يتسرب من بين أصابعي اضطررت للموافقة".

وتابعت: "أنا ووالده وشقيقته على استعداد للتبرع له بكليه إن تطابقت تحاليلنا، ولكننا بحاجة إلى تحويلة للعلاج، فنحن لا نستطيع تحمل تكاليف السفر الباهظة من جهة، ومن جهة أخرى لا نقوى على فتح معبر رفح المغلق بشكل شبه مستمر دون أن تكون هناك جهة متبنية لعلاج ابني".

حدثتني بانفعال واضح دفعتني للتفكير في أسرتنا العربية، كم تتحمل الأم من مسؤولية!، فهي تبدو كقائد فرقة الأوركسترا الذي يؤدي معزوفة كتبت نوتتها مع الأب، تطبق ما جاء فيها باحتراف، وتسعى جاهدة كي تنسج التناغم بين آلاتها الموسيقية، فتمنحها الإيعاز بالبدء والضرب والحب والحرب، وإذا ارتخى وترٌ سارعت إلى شده وحافظت على مكانه داخل هذه النوتة، وهكذا تمضي الحياة.

إعلان وفاته

لم يمنعها الفقر ولا ضيق الحال من أن تهدي عائلتها أجمل ألحانها، لكن مرض "منذر" غير مسار النوتة ولحنها، حتى بدت أكثر حزناً وألما وقهراً مما يمكن أن تفيض به الكلمات من مشاعر لا يمكن لها أن تصف شعور أم ترى ابنها يتلوى ألما، وتتنفخ أطرافه ورما، بعد كل عملية غسيل كلى، يخضع لها مرتين في الأسبوع، منذ عام ولا يزال، ذلك الألم الباذخ الذي لم يصل حتى الآن لأذن منقذٍ، يعي أن قطاع غزة به آلاف الحالات من المرضى الذين أنهكهم المرض، كما أنهكهم الفقر، وأنهكتهم الحرب وأنهكهم الفقر.

"منذر" هو فرد من أسرة مكونة من ثمانية أفراد عدا الوالدين، ولديه شقيق وشقيقة مريضان، أما عائلته فأصبحت تعيش على ما تمنحهم إياه وزارة الشؤون الاجتماعية بعد أن خسرت تجارة والده وأصبح مديناً للتجار الآخرين، لا حول ولا قوة له إلا المساعدات، ومشاهدة نجله "منذر" يجلس في تابوت "الفشل الكلوي" منتظراً الإعلان عن وفاته!.