لا والله، ما اختفت بسمتك الثائرة يا بنيّ بل يا سيّدي؛ فستبقى نورًا يضيء دروب الثوار من بعدك، كما كانت صورة والدك أيقونة تزيّن جدران البيوت في فلسطين.
لا، ولا سقطت اليد التي رفعت بالأمس شارة النصر لتغيظ العدا؛ فكيف "تسقط" يد "ترتقي" إلى العلا قابضة حفنة من تراب الأرض جبلتها بدمها؟!
ستبقى إشراقة عينيك جحيمًا يحرق الغاصبين وأذنابهم.
وأنتِ يا أمّ أحمد، أنت يا صانعة الثورة والثوّار، أنت أيّتها السنديانة المجبولة بروح التضحية والثورة، التي قدّمت لفلسطين زوجك نصر جرّار وابنك أحمد، أنت التي كتمتِ شهقة نشيجك في ظلال عظمة أحمد ومن قبلها بطولة نصر، أنت النور الساطع في مشهد الفخر والاعتزاز بالثائر الشهيد الباسم أحمد، لا يمكن لفلسطيني حُر أن ينساك سيّدتي، بل أنت ذاكرة الوطن والشعب سيدتي.
لك كل التحية والتقدير سيدتي، ولنا الفخر أن نذكرك وننتمي إليك.
ستبقى كلماتك الخالدة _سيدتي_ وجعًا في ذاكرة كل الأحرار: "طلع من حضني لحضن أبوه".
نعم، فجر هذا اليوم كان عند "نصر جرّار" عرسًا أيّ عرس، إذ استقبل فلذة كبده، وكأنّي _يا أحمد_ بمواكب الآلاف ممّن سبقك من الشهداء تصطفّ استقبالًا لك ولأبيك.
ما خذلته اليوم، وهو الذي تركَك طفلًا تتعثر في خطاك على ركام مخيم جنين، وها أنت اليوم تلحق به بهذه العزة التي تليق بشهيد. إنه الإرث المقدس سيدي، إنّها جينات الثورة والعظمة التي تنبتها الأرض المروية بدماء الشهداء.
طوبى لك عظيمًا ابن عظيمين، تلتقي اليوم العظماء من هذا الشعب الذين قضوا فداء لفلسطين على امتداد مائة عام من الثورة التي لم تخمد ولن تخمد.
منذ أيام أنحت ما يمكن أن يحوم حول تخوم عظمتك، لكن هيهات نستطيع مطاولة الثريا ونحن نحبو على الثرى، هكذا هم الشهداء يتعبون من بعدهم؛ فلا هم يستطيعون اللحاق بركب عظَمتهم، ولا هم يستطيعون نكران تضحيتهم.
لذا كنتَ تراني مرة أهيم بإشراقة بسمتك، ومرة أغوص في أسرار ثورتك، ومرة أفخر إلى درجة "الغرور" المحبب بعزة شارتك، ثلاثة أسابيع كنتَ فلسطين بكل ثورتها وقدسيتها وتاريخها وأبطالها وثوارها وأحرارها، ثلاثة أسابيع تطارد "دولة" بجيشها وأمنها، كل ذلك جسدته صورتك، وحكته ملحمتك على قصَر روايتها.
حتى قبل ساعات من شهادتك _سيدي_ هتفتُ من أعماقي هتافًا، لعلّه يصل حيث تُطارد عدوك من "مغارتك": حقّ لك أن ترفع شارة النصر يا ابن نصر؛ ففي وجهك الباسم نرى ألف ألف نصر، حماك الله حيث كنت من كل غدر.
أنا الخمسيني كنت أرى فيك قدوة وددت لو استطعت الائتساء بها، فكيف بآلاف الشباب يشتعلون غضبًا وثورة؟!، كنتَ لهم فخرًا، والآن أصبحتَ لنا ولهم نبراسًا.
الآن الآن أستظلّ كما ملايين الأحرار والثوّار هيبة شهادتك؛ فلا تفارقني ثورة بسمتك، ولا بريق عينيك الذي طارد غاصب أرضك قاتل أبيك وهادم بيتك.
اطمئنّ يا سيدي، وطمئن أباك وإخوانه أن شعبكم ماضٍ في ثورته، ماضٍ لم ترهقه مائة عام من التضحية، مائة عام والأمهات كأمك _يا أحمد_ تزغرد لوداع الشهداء من فلذات الأكباد والأزواج، مائة عام ما تغير لحن "الزغرودة"، ولا تلعثم نغم "الأهزوجة"، بل إن شدْوَه يزداد جمالًا وألَقًا، مهما اختلط بالدموع أو تلون بالدماء، أو تبعثر بين الدمار.
وأنتِ يا أم أحمد، يا سيدتي، بل يا سيدة فلسطين، لا أقول لك اطمئني؛ فأنت المطمَئنّة المطَمْئنَة، ولكنّي أقول لك: تيهي على الدنيا عزة وفخرًا، فمن مثلك زوجة شهيد وأم شهيد؟!، وزدتِ على ذلك أنك أنت أنت.
وأنت _يا أحمد_ وداعًا على أمل اللقاء بثائر عنيد يقودنا إلى "نصر" جديد.