فلسطين أون لاين

ماذا فعل مصحف الشهيد احمد نصر جرار؟

تنفس الصعداء قادة الصهاينة عندما تمكنوا من اغتيال الشهيد أحمد ابن الشهيد نصر جرار، ولقد تنفسوا كثيرًا مثلها وخاب أملهم عندما كانوا يعتقدون أنهم قد أغلقوا الملف ثم ما لبثوا أن اكتشفوا أن هذا الملف لم يغلق ولن يغلق أبدًا.


وقد تكرر ذلك إثر اغتيال عشرات القادة والكوادر المجاهدة في فلسطين، وقيادة الاحتلال لم تدرك بعد أن خط المقاومة لن يتوقف ما دام السبب موجودًا، وهو الاحتلال، وهذا وحده سبب كاف لوجود من يقاومه، هذه سنة الحياة والتاريخ، لا تتغير ولا تتبدل، فلما تدخل كائنات غريبة تدعى ميكروبات وبكتيريا جسم الإنسان؛ فلابد أن يفرز هذا الجسم مضادًا حيويًّا يقاوم هذه الأجسام الغريبة حتى ينتصر عليها.


الشعب الفلسطيني بأسره وكل من يؤازر هذا الشعب المقاوم شاهد موقف المرأة الفلسطينية التي أصيبت بزوجها وابنها، وهذا الرضا التام عن معادلة المقاومة، مع الألم الكبير في مصاب عظيم لا يمكن تقدير حجمه وعمق ألمه: شاب في زهرة شبابه يشكل لأمه حياة واعدة ومستقبلًا زاهرًا، لا شك أن ألمها كبير وعميق؛ فهي تتألم كما يتألم أعداؤنا وأكثر، ولكنها ترجو من الله الحق العدل أن ينتصر لها ولشعبها وتتحسس الحياة الآخرة ومعاني الشهادة العظيمة بكل وجدانها، فتقول قولًا عاليًا وازنًا لا يفوح إلا بالرضا التام، والتعلق الكامل بالقدس وفلسطين، وأمل شعبها في مستقبل عظيم ينتصر فيه النور على البارود، وتعلو دماء الشهداء وأرواحهم على ظلام هذا الاحتلال البغيض، الزائل بإذن الله.


وتأتي صورة المصحف الذي تسلمه الشهيد من أبيه الشهيد، ليراها كل من يملك قلبًا أو روحًا حرة، هكذا هو عهد الشهداء أن يروا أبناءهم على الخط نفسه، خط المقاومة والشهادة، خط الحرية والكرامة، خط النور التام في مواجهة الظلام الحالك.


كم منا يربي أبناءه للحياة الدنيا!، من نعومة أظفارهم نزرع في أبنائنا الشهادة العلمية العالية والحياة الوظيفية ذات الراتب العالي والمكانة الاجتماعية السامية، هذا ليس عيبًا، ولكن بموازاة ذلك ونحن مجتمع يواجه احتلالًا عاتيًا لم لا نزرع أيضًا روح الشهادة ومواجهة الظلم وطغيان الاحتلال؟


أذكر من آثار الهزيمة انتشار كثير من الأمثال الشعبية الانهزامية، مثل: "امشي الحيط الحيط وقول يا رب الستيرة"، و"ميت عين تبكي ولا عين أمي تبكي"، و"حط رأسك بين الروس وقول يا قطاع الروس" ... إلخ، وكان آباؤنا الذين شردوا من ديارهم يخافون ويخوفون أبناءهم من اليهود، ما خلق روحًا انهزامية مدة طويلة من الزمن، ولكن هذه الثقافة تغيرت فيما بعد وتوثبت الروح الكامنة في الإنسان الفلسطيني، وكان منها ما فاجأ هذا الاحتلال، الذي ظن أن الأمور قد استوت له، فكانت المقاومة والثورة وانتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى، وكانت العمليات الفدائية التي أجبرت الاحتلال على الهرب من قطاع غزة بعد أن رفعت كلفة الاحتلال بشريًّا وماديًّا، وكذلك هرب من لبنان في غسق الليل تاركًا عملاءه بلا ظهر، وكانت شر هزيمة.


المصحف الذي تعاهده ابن الشهيد إلى أن ترجم الوصية خير ترجمة سيبقى شاهدًا كبيرًا على هذه الروح العظيمة المجاهدة الثائرة التي لا تلين ولا تستكين، أراد الشهيد الكبير أن يقول لابنه الصغير قولة بينة واضحة لا لبس فيها: القرآن هو العهد الذي بيني وبينك، عليك ما فيه قولًا وعملًا، هذا هو الحياة وسواه ممات يُسرّ له العدو، الفلسطيني الميت هو الذي يريدون، والمقصود بالميت هو الذي من جماعة: رضي الاحتلال عنهم ورضوا عنه، القرآن هو الذي يصنع الفلسطيني الحي، الذي يختار الحياة التي تكيد العدا أو الممات الذي يسر الصديق.


هناك مصاحف تملأ المساجد وهناك قرآن يتلى في المسجد الحرام ويختم في رمضان مرتين، وهناك آلاف آلاف الحفاظ، أصبح هناك مسافة بين الفهم الصحيح والتطبيق الصادق للقرآن وواقع المسلمين المر هذه الأيام، إذ ماذا يعني أن دول البترول التي تحيط بغزة هاشم وعلى مقربة منها ليلها أصبح نهارًا مما أنعم الله عليها من خيرات البترول، ومستشفيات غزة تغرق في الظلام على المرضى وغرف الإنعاش؟!


مصحف الشهيد يقول لنا: إن هناك قراءة ثانية للمصحف، فرق شاسع بين قراءة صاحب الروح المهزومة وقراءة من يحمل بين جنبيه روح الانتصار، قراءة من يدور في الفلك الأمريكي والإسرائيلي ومن يسأل الله (تعالى) الشهادة بصدق، فرق كبير بين قراءة المطبعين وقراءة الثائرين.


مصحف الشهيد يعلن ثورة، يفتح صفحات انتفاضة جديدة، يقول لكل من يتعامل مع القرآن برخاوة أو نياطة أو غباوة أو فهم منحرف: توقف قليلًا وتفكر جيدًا، هذا قرآن مجيد جاء ليصنع مجد أمة؛ فانظر ماذا أنت عامل فيه.


معذرة شهداءنا، معذرة إلى الشهيد القائد المفكر نصر جرار، لقد وصلت رسالتك بليغة فصيحة إلى كل من كان له قلب كما وصلت إلى ولدك فلذة كبدك أحمد، من أراد أن يلتقط الدرس فليفعل، وليلتقط النظارة التي سقطت عن وجه عمر المختار وهو على حبل المشنقة، تلك التي نقرأ بها قرآننا على الوجه الذي يريده الله منا.