فلسطين أون لاين

عماد العلمي.. قائد رسالي يمضي

ومضى أبو همّام، مضى بذات الهدوء الذي قضى فيه حياته، مضى هذا القائد المجاهد العامل الصامت الصامد "الإنسان" الرساليّ! انسلّ من دنيانا بلا صخب ولا ضجيج ليلحق بركب الشهداء والصالحين والصدّيقين والقادة العظام الذين أحب.


أبا همّام لمثلك يتلعثم الرّاثون ويتبعثر الرثاء، فلا يليق بمقامك إلا الفخر والمديح والثناء، ووددت لو كنتُ حيث يتحلّق المودّعون حول جثمانك الطاهر أو يجتمع المعزّون بفقدك فأهتف فيهم: لكم الفخر، لكم الفخر إذ تجتمعون في أثر أبي همام.


لا! ليس لغزّة أو لحماس وحدها أنْ تفخر بهذا القائد الفذ، فهو قائد لشعب عظيم يستحق قادة مثله، وهو قائد في أمة، وبلا مبالغة أو تنطّع فهو من أعلام الأمة الإسلامية بمفهومها ومكنوناتها الكلية. لم يكن إعلاميا، نعم! ولكنه كان بالتأكيد عَلَما عظيما، ارتبطت فيه مفردات ومصطلحات، فإن ذُكِرَتْ ذُكِرْ، وإنْ ذُكِر استُحضِرت!


صمّام الأمان، صوابية البوصلة، ضمير الحركة، القائد الصامت، إذا تكلّم أوْجز وإذا عمل أنجز، وضوح المسيرة والمسار والمسير، صلابة الموقف، مرونة التعامل، حسن الخلق. لا نمجّد أو نبالغ أو نرفع قدْر زعيم لا يستحق، بل نحاول ملامسةَ تخوم المجد الذي بعماد! يكفيه شهادة مئات الآلاف ممن عرفوه وعايشوه أو سمعوا عنه بل حتى من لم يروه؛ فمنذ أن انتشرت أخبار إصابته قبل أسابيع، لم تهدأ وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع والصفحات الشخصية العامة عن ذكره بالخير والدعاء له والاتصال بأهله وبإخوانه في حركة حماس في الداخل والخارج، وكأن الله -ولا نتألّى عليه- قد مهّد لإعلاء ذكره ورفع شأنه، وهو الذي كان يتعمّد الغياب ويتجنب الظهور والرمزية مع أنه أهل لها.


ومع أنه من مؤسسي العمل الإعلامي في حركة حماس في غزة، واعتقل عند العدو الصهيوني بهذه التهمة بعد الانتفاضة الأولى بستة شهور! إلا أنه كان صانعا للإعلام والأعلام، ولم يكن ممن يحتاج أو يسعى لصنيعة الإعلام! فهو علَم في الحَسَب والنسب؛ مغربيّ الجذور، مقدسيّ الأصل، غزّيّ النشأة، سليل النسب الشريف.


وفي العمل ما ترك هيعة إلا وخاض غمارها، وما تولى يوما في ميدان يخدم شعبه ويرفع راية قضيته حيث حل أو ارتحل. خرج مبعدا بعد اعتقال سنتين، ومنذ لحظة إبعاده ظهرت صلابته مع بسمته البسيطة في أول مقابلة تلفزيونية له وهو تحت الثلج في جنوب لبنان؛ فكان ملفتا ولافتا إذ يصر على المذيع الأمريكي أنها فلسطين (PALESTINE)، وليست (إسرائيل) كما يقول المذيع!


ومنذ اللحظة الأولى التي التقى فيها إخوانه من قيادة حماس في الخارج انضمّ لقيادة الحركة ومكتبها السياسي، لأنهم رأوا فيه الرجل القائد الواعي ذا البصيرة كما وصفه خالد مشعل يوم التقاه في الخرطوم، ولأنه يستحق ذلك.


ومن يومها ارتبط عمله بكل ما يتعلق بالداخل، فكان المرجعية التي لا يراجع بعدها! فإذا قال رأيا في شأن الداخل كان القول الفصل الذي يقطع قول كل قائل؛ ولهذا كان في رأس قائمة المستهدفين وعلى رأس قائمة الاغتيالات عند العدو الصهيوني، سواء يوم كان في الخارج برفقة إخوانه قادة حماس، وحتى عندما عاد إلى غزة؛ حيث استمر إيذاؤه للعدو.


كان سفير الحركة الأول في طهران، فمثّل حركته وفلسطين خير تمثيل، بصوابية بوصلته ووضوح فكره وأُممية وعيه، ومنذ تلك الأيام نسج مع مفاصل القرار هناك، بمعية إخوان له بواكير العلاقة الواضحة التي تليق بمكانة فلسطين والقدس كيَد عليا يفخر من يدعمها! عرفه الأردن وأهله ثلاث سنوات عضوًا في المكتب السياسي لحماس ومسؤولا عن إدارة الداخل، إلا أنه رُحِّل بهدوء مع الدكتور موسى أبو مرزوق في مايو 1995، فاستقر في دمشق ليكمل مسيرته ومساره ومسيره في خدمة قضيته، وقضى فيها 17 عاما ممثلا للحركة فيها.


لكن قلبه ظل معلّقا بفلسطين التي ما فارقها، وغزة التي ما برحها؛ فما أن تهيأت له فرصة العودة إلى حضنها، حتى مضى إليها وكأنها الفضاء الذي حلّق فيه حرا متألقا رغم حصارها.


وهناك -كعادته وكعادة إخوانه الذين يعرفون قدْرَه- وضعه إخوانه في المكان الذي يليق به فور وصوله، فهو القائد غير المتوج حيث حل؛ دون أن يزاحم أحدا أو ينافسه أحد! وبقي في صدارة الفعل والجهاد والرمزية إلى أن تولى للظل، وهو الذي لم يقترب من الأضواء أصلا. وسلم الراية، وانضوى تحت لوائها في هدوء، صامتا صابرا صامدا بعد أن قاد مع إخوانه معركة "العصف المأكول"، والتي فقد فيها إحدى ساقيه.


أبا همام.. نودّعك اليوم للقائك في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ونعاهدك على أن تبقى "الرساليّة" التي كنت تتمثلها دوما راية يلتف حولها مجاهدو فلسطين، كل فلسطين.


نودعك باسم فلسطين وثوارها والأمة وأحرارها، فليست حماس وحدها من فقدتك، وإنما الخاسرون بفقدك كثر.


رحم الله القائد الزاهد الصابر الصامد عماد العلمي، وعزاؤنا لأهله وذويه الكرام، لوالدته الفاضلة ولزوجته الصابرة المحتسبة أم همام التي رافقته مسيرة جهاده، وهمام وإخوانه وأخواته الذين ورثوا عن أبيهم كل خُلق حميد.


طبتَ حيّا طبتَ مجاهدا، طبتَ جريحا، طبتَ حيث أنتَ الآن بين يدي رحيم غفور.