رغم هدوء أصوات القذائف والصواريخ، إلا أن الحرب تستمر بصمت، تحاول الفتك بالجدار الأخير للقضية الفلسطينية، تدعس الانتماء الوطني بوسائلها القذرة، تشوه ما تبقى من حراس للهوية الفلسطينية، تقتل بلا شفقة حتى الأجنة في بطون الأمهات, ولا ترحم رضيعاً ولا مريضاً أو كهلاً عجوزا. إنه الجيل الرابع من الحروب، يصب حممه على مفاصل الوجود في قطاع غزة, فما فشلت به الحروب التقليدية التدميرية, يحاولون الآن تحقيقه في جولة جديدة من الحرب الدموية الصامتة, سعياً لإسقاط قطاع غزة كقلعة للمقاومة الصامدة, كرافعة وطنية قادرة على إعلاء راية الثوابت والحقوق الفلسطينية, وما يملكه أهلها الصابرون من مقومات الصمود والمقاومة والتمسك بالعودة وفلسطين, تجعل الخلاص من هذه البقعة الجغرافية العنيدة ممراً لمؤامرات التصفية الأمريكية للقضية الفلسطينية, قطاع غزة الآن في عين العاصفة وأتون المعركة, وكآخر القلاع الوطنية في الداخل المحتل, سيتواصل الهجوم عليه بكافة أنواع الأسلحة, بالجوع ونقص الدواء, بالحصار المالي للموظفين والمؤسسات, بتقاعس الحكومة عن أداء دورها الوظيفي الخدماتي, وصولاً للانهيار المقصود للأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة, حيث إن 80% من المصانع أغلقت جزئيا أو كلياً, وارتفاع في نسبة البطالة لتقارب50% نصفهم من الشباب, مع استمرار الحصار الصهيوني والتهديد الذي لا يتوقف بالعدوان العسكري على قطاع غزة, ومحاولة شيطنة المقاومة وإلصاق تهمة "الإرهاب" بها.
لا يخفى على أحد حجم المعاناة المريرة الواقع على سكان القطاع, والتي ازدادت مؤخراً بسبب الإجراءات العقابية التي فرضها رئيس السلطة محمود عباس, رافضاً رفعها رغم اتفاقية المصالحة وبسط حكومة الحمد الله نفوذها على غزة, وفقاً لما نص عليه اتفاق القاهرة في أكتوبر 2017, لتصبح الكلمة "مش مستعجل", مخططا عمليا يراد به تحقيق مآرب سلطوية وأهداف سياسية, في مقدمتها فرض برنامج السلطة السياسي القائم على التفاوض, في مقابل شطب البرنامج الوطني المقاوم, ويراهن عباس على الوقت في تحقيق ذلك, مع شد الخناق وزيادة الأعباء الحياتية لأهالي قطاع غزة, وفي ذاك السياق يأتي قرار إعادة فرض ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات في غزة, واستمرار الخصومات على رواتب الموظفين التي أثرت بشكل ملحوظ على القوة الشرائية في الأسواق الغزية, وعدم مساهمة السلطة في التخفيف من أزمة الكهرباء بقطاع غزة أو أنها لا تريد ذلك, رغم ما أعلنه عباس في خطاب المجلس المركزي مؤخراً, بأن أهل غزة مبحبحون في الكهرباء, وهذا ما يكذبه الواقع, والأرقام تقول إن عجز الكهرباء في غزة يصل إلى أكثر من 80%, فأين هي البحبوحة في ذلك؟!
القطاع الصحي على وشك الانهيار, ووزير الصحة يرسل الأدوية الملحة لمرضى القطاع بالقطارة في مناسبات استعراضية معدودة, أليس القطاع الصحي في غزة من ضمن اختصاصات عمل وزير الصحة, ويخضع لخطط الوزارة ومطلوب منها وإعطاء أولوية ولو مؤقتة بشكل إغاثي فوري للقطاع الذي يعاني من نقص حاد في الأدوية؟ على ما يبدو فإن صرخة وكيل الوزارة د. يوسف أبو الريش بأن "الوزارة بكافة مؤسساتها الصحية تعمل في الرمق الأخير" لم تصل بعد للرئيس أو الوزير.
سنفترض حسن نية السلطة الفلسطينية وحكومتها, ونؤكد سوء إدارتها لملف قطاع غزة, وتقييد واجباتها الحكومية والوطنية, في ميدان المناكفة الحزبية للأسف, وهذا لا يليق بمن يحمل هموم الوطن والمواطن, وكان يجب عليها القيام بدورها الخدماتي البحت بلا تأخير, لا يعنيها الخلاف السياسي بين الأحزاب, بحيث لا يؤثر على دور الحكومة الوظيفي في خدمة المواطنين بلا تمييز, مع الإقرار بحرمة استخدام أدوات ووسائل وإمكانيات السلطة كأسلحة في الصراع السياسي الداخلي, وأي خلاف سياسي يرحل لاجتماعات الحوار الوطني الشامل وصولاً لاتفاق على رؤية وطنية جامعة.
ومع الهجمة الصهيو أمريكية على وجودنا وهويتنا, وانكشاف المؤامرة ووضوح وسائلها وأهدافها, ألا يتطلب ذلك منا توحيد صفوفنا, وتناسي خلافاتنا الثانوية, ليكون التناقض الوحيد والاشتباك الرئيس للكل الفلسطيني فقط مع الاحتلال الصهيوني؟ ألا يستدعي ذلك توفير كافة مقومات الصمود والبقاء للفلسطيني على أرضه؟ ألا يوجب ذلك تعزيز المقاومة, كوسيلة الدفاع الأنجع عن الوجود والحياة للفلسطيني في وطنه؟ ألا يتطلب ذلك تشكيل جبهة وطنية شاملة؟ ممكن أن يتم ذلك عبر عملية إصلاح جادة لمنظمة التحرير, لتضم كافة أطياف الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل والشتات, يكلل ذلك عبر بناء إستراتيجية موحدة وقوية, تحفظ الحقوق وتدافع عن الثوابت وتسعى لإنجاز المشروع الوطني التحرري واقتلاع الاحتلال من فلسطين.