أيُّ وقاحةٍ هذه وسفالةٍ تلك التي تطالعنا بها الإدارة الأمريكية، التي صفعت العرب والمسلمين على وجوههم بقرار رئيسهم المشؤوم باعتبار القدس عاصمةً أبديةً موحدةً للكيان الصهيوني، ثم يريد بصفاقةٍ وغباءٍ وقلةِ ذوقٍ وانعدامِ لباقةٍ من الدول العربية عمومًا ومن السلطة الفلسطينية على وجه الخصوص، أن تستقبل نائبه خلال زيارته الجارية إلى المنطقة، ويريد من القادة العرب والفلسطينيين أن يحسنوا استقباله، وأن يكرموا وفادته وأن يبشوا في وجهه، وألا يُبدوا أمامه غضبهم أو استنكارهم لسياسة رئيسه وقراراته المشينة، وألا يظهروا معارضتهم له أو لزيارته.
بل إنه يحذر من مغبة عدم استقباله و الإساءة إليه، ويلوح بعصاه السياسية الغليظة وعقوباته الاقتصادية المنافية للأخلاق، مهددًا الدول التي تغلق أبوابها في وجهه وترفض استقباله، أو تلك التي تحرض عليه وتطالبه بالاعتذار عن مواقفه والتراجع عن خطواته، ولعله يتوقع من الحكومات العربية أن تخضع له أو أن تخاف منه، فتخف لاستقبال نائبه وترحب به وتضحك له، وتهيئ له الفرق الفنية العسكرية لاستعراضها وتوجيه التحية له، وعزف النشيد الوطني لبلاده، ورفع أعلامها في كل مكانٍ يمر فيه أو تعبره سيارته.
إنها بصدق صفاقةٌ غريبةٌ، وسياسةٌ عجيبةٌ، وساديةٌ مقيتةٌ، وعنجهيةٌ أمريكية غير مسبوقةٍ، تلك التي يحاول الرئيس التاجر ورجل الأعمال المقامر والمضارب الغر أن يفرضها علينا، وأن يمليها على حكوماتنا وشعوبنا دون إرادتنا، وكأنه بالأمس القريب لم يرتكب جرمًا، ولم يهن العرب والمسلمين وما زال، إنه يريد منا بكل بساطةٍ أن نضحك للقاتل، وأن نشكر المجرم، وأن نرحب بالظالم، وأن نفتح الأبواب للغاصب، وأن نعترف للسارق بشرعية ما سرق وقانونية ما نهب، وأن نفزَّ على أقدامنا ونشمر عن سواعدنا لخدمة المتآمر، وأن نكون عبيدًا له يؤمرنا فنطيع وننهانا فننتهي، ظانًا أن هذه الأمة وشعوبها قد خصيت رجولتها، وامتهنت كرامتها، وسلبت إرادتها فما عادت تقوى على أن تقول لا أو أن تعترض، أو هكذا يريد منا أن نكون.
علم الرئيس الأمريكي وإدارته التي رصدت سفاراته في دول المنطقة الأوضاع العامة، وراقبت عن كثب حالة الغضب والاحتقان، والثورة والانتفاضة ودعوات المقاومة والقتال، ورفعت تقاريرها العامة إليه، أن شعوب المنطقة العربية والإسلامية غاضبة، وأنها غير راضية عن سياسته، ولن تقبل أن تصفع مرةً أخرى منه، إذ أن صفعة الاستقبال أشد وأنكى، وأكثر إهانةً وأعمق ذلًا، وأبلغ استخذاءً وأكثر ركوعًا، ولهذا كانت الأصوات العربية والفلسطينية عالية، ما دعا الرئيس الأمريكي وإدارته إلى تأجيل الزيارة أكثر من مرة، الذي أرسل موفدين سريين إلى حكومات الدول العربية المنوي زيارتها، يطالبها بتسهيل مهمة نائبه وحسن استقباله، حفظًا لكرامته وهيبته، وتأكيدًا على قوته وسيادته، وإلا فإنه وإدارته سيكون في موقفٍ حرجٍ قد يدفعه إلى اتخاذ قراراتٍ أخرى أشد وأقسى، وأكثر تطرفًا وانحيازًا، يكون من شأنها استعادة كرامته وإثبات قوته وتفوقه.
ماذا يريد مايك بينس أن يقول للعرب والفلسطينيين، هل جاء ليعزيهم بالمصاب، أم ليقنعهم بالقدر ويطالبهم بالتسليم به، أم أنه جاء لينعى إليهم قدسهم ومقدساتهم، ويؤكد لهم خبر الوفاة التي لا حياة بعدها ولا بعث ولا نشور ولا قيامة، وأن عليهم أن يسلموا بالأمر الواقع وأن يبحثوا عن الخيارات والبدائل، وألا يجمدوا حياتهم ويوقفوا مستقبلهم على ما كان لهم، فما كان لهم قد آل إلى غيرهم، وعليهم أن يقبلوا بهذا الأمر شاؤوا أم أبوا، لعل هذا هو لسان حاله ورئيسه، فهذه هي معايير القوة ومحددات الغلبة والتفوق، والعرب والفلسطينيون ضعفاء لا يملكون القوة للتغيير ولا الإرادة على التحرير، فلماذا يطالبون من القوي أن يخضع لهم، ومن المنتصر أن يستخذي لهم ويستجيب إلى طلباتهم، ويؤدي لهم الحقوق التي يدعون أنها لهم.
واضحٌ أن نائب الرئيس الأمريكي قد جاء إلى المنطقة رغمًا عن أهلها، وبالضد من إرادتها، ولهذا ينبغي على الحكومات العربية والإسلامية جميعها، أن تكون حاسمةً في موقفها، وقاطعةً في قرارها، وجادةً في سياستها، وأن تقف إلى جانب خيارات شعبها، وأن تعبر عن إرادته وتترجم مواقفه إلى سياساتٍ واضحةٍ، لا لبس فيها ولا خوف منها، وأن تصر على معارضتها للقرار الأمريكي، ومقاطعتها للإدارة الأمريكية، وأن تعلن عن عدم جاهزيتها لاستقبال أي موفدٍ أو مسؤولٍ أمريكي مهما سمت منزلته وارتفعت درجته، وأن تؤكد على وقف الحوار والتواصل معها، وعدم التعاون أو الاشتراك معها في مشاريع المنطقة، أو في البرامج المعدة والمناورات المشتركة، حتى تعود عن قراراتها وتتراجع عن مواقفها.
تدرك الإدارة الأمريكية بكل مؤسساتها السياسية والأمنية والعسكرية، بعد قرار رئيسها أنها لم تعد موضع ترحيبٍ أو ثقةٍ من قبل الشعوب العربية والإسلامية، وأنها لم تعد أبدًا تصلح للوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين فيما يسمى بعملية (السلام)، فالولايات المتحدة الأمريكية باتت طرفًا في الأزمة وجزءًا من الصراع، ولم تعد فقط حليفةً للكيان الصهيوني، وإنما أضحت جزءًا منه، تنطق باسمه وتعبر عنه وتحل مكانه، ولهذا يجب على الأنظمة العربية ألا تساهم في إنقاذ هذه الإدارة التي غرق مركبها وغاص في عمق مياه المنطقة، ولا يصح أبدًا أن تمدَ لها حبل النجاة، ولا أن تعطيه ترياق الشفاء، فقد حكمت الإدارة الأمريكية على نفسها بالشطب من الصورة وألغت دورها من العملية، وعليها أن تتحمل وحدها نتائج قرار رئيسها الأرعن.
وليعلم قادة الأمة العربية والإسلامية أن الحياة وقفة عز وساعة شرف، وأن من يقبل الإهانة ويستمرئ الشتيمة، يعش أبد الدهر عبدًا ذليلًا وأجيرًا مهينا، وأن الموت تحت ظلال السيوف أشرف ألف مرةٍ من الموت ذليلًا في الفنادق والقصور، فهل يقبلون أن يكونوا قطيعًا أمام هذا الكابوي، يسوقهم بالعصا ويوجههم بالسوط، ويدع كلابه توجههم وتحركهم، ويسوقهم إلى المسلخ ليذبحهم متى شاء، أم يثوروا لكرامتهم وكرامة شعوبهم، ويرفعوا الصوت عاليًا محذرين رافضين، فهذا وقتٌ يظهر فيه الرجال ويبرز فيه الفرسان، ولا ساعةً كهذه تتطلع إليها شعوب أمتنا لفارسٍ كرارٍ وقائدٍ شجاعٍ ورجلٍ حكيمٍ، يمتطي صهوة جواده، ويكز على أسنانه بغضبٍ ويلوي عنق جواده ويقول، هيهات منا الذلة، فنحن أبناء أمةٍ أعزها الله بالإسلام، ورفع قدرها بالقرآن، وطهرها أرضها وقدَّس بقاعها وديارها ببيوته الحرام، فلا والله لا نعطي الدنية في ديننا، ولا نقبل المهانة لمقدساتنا.