فلسطين أون لاين

​علاء البازيان بصيرة القدس في سجون الاحتلال

هناك تلاقٍ كبير بين مسار حياة علاء البازيان والمسار التاريخي الحديث للقدس:

  • في عملية فدائية فذة فقد فيها علاء البازيان بصره، وعلى قدر ما هي قاسية ومؤلمة وكارثة حلت على علاء إلا أنها كانت مفصلا أساسيا من مفاصل حياته، هكذا عندما اجتاح القدس احتلال غاشم جعل نهارها ليلا حالكا وأظلم فيها كل شيء ولم تعد القدس ترى النور والضياء، والاحتلال يلقي بظلامه على كل القباب، شكل ذلك مفصلا من مفاصل التاريخ المعاصر لأمة فقدت قلبها وصارت جسدا بلا قلب حينما انتزعوا منها قدسها.
  • ورغم جبروت هذا الاحتلال إلا أن القدس لا تلقي سلاحها، تبقى تواجه بعبق أنفاسها وروح كبريائها، لو تخلى عنها أصحابها وباعها الصديق المفترض أن يجيش الجيوش لنصرتها، لو فقدت كل إمكانات الحرب ولم تملك منه شيئًا سوى نبضات قلبها وصدق إرادتها فإنها لن تستكين ولن ترفع الراية البيضاء أبدًا وستبقى شاهدة مع الحق مهما ضعف ومناوئة للباطل مهما علا وتجبر.. وهكذا علاء يصر دوما على التحدي والمواجهة حتى أنه عندما أفرج عنه في صفقة تبادل سنة خمس وثمانين من القرن الماضي عاد ثانية حاملا للمؤبد.. ماذا فعل هذا الضرير ليعود بالمؤبد ثانية.. هو فاقد للبصر ولكنه متقد العقل والفؤاد فصنع ما لا يصنعه ذوي الأيدي والإبصار.. كان بامكانه أن يكتفي برصيده الثوري والاعتقالي من حبسته الأولى ويرضى بوظيفة محترمة وعيشة سمينة مرفهة ويحظى بالاحترام والتبجيل، لكن إحساسه المرهف بالقدس لا يمكن إلا أن يلتحم نبضة بنبضها ويعزفا لحنًا واحدًا لا يحيد عن إغاظة الغاشم المحتل.
  • القدس لا يمرّ عليها التزييف وتبقى واضحة وضوح الشمس رابعة النهار، تبقى صارخة في وجه كل من حاول إلباسها وصفا غير وصفها أو إلحاقها بكيان غير كيانها أو وضعها في سياق غير سياقها، كل محاولات التهويد وتزييف التاريخ تتساقط بسرعة فقط إذا رمقتها أعين المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة، لن تصمد ثانية أمام أسوارها أو أبوابها أو أسواقها العتيقة.. تكفيها نظرة من حارة السعدية (مسقط رأس البازيان) لتولي هاربة إلى حيث المدعين كلهم وعلى رأسهم ترامب ذاك المأفون الذي جاء عكس حركة التاريخ بطريقة فجة وجبانة.
  • البازيان ببصيرته الحاسمة يقف في سجنه بالمرصاد لكل من يخرج عن سياق القدس.. لم أرَ مثله في تدقيق المصطلح.. أذكر عندما كنا في جلسات التحليل السياسي يتصدى لكل من يذكر دولة (إسرائيل) بالاسم ويجبر من تلفظ بها أن يعيد التعبير وهكذا كل مصطلحات الاحتلال ليعيدها إلى مصطلحات الثورة.

    وعندما جاءت أخبار مؤتمر مدريد ومشروع أوسلو حيث كثر الحديث عن السلام وتداعياته أطلق البازيان لبصيرته العنان وأخذ يكبح جماح كل من يقع في شباك هذا السلام المزعوم، اتخذ موقفًا واضحًا جريئًا لا لبس فيه: إنها الهزيمة والاستسلام، إنها ضياع القضية والقدس، لم تبهره الأخبار التي تناولت الإفراج عن الأسرى ولم يعطِ لذلك أية حسابات تعلو على حسابات القدس والقضية.. هو بإحساسه كأسير يحب الإفراج والنجاة من هذا الكابوس الفظيع الذي يسمى سجنًا وهو بالذات كان في سجن داخل سجن بصفته ضريرًا حبيس الظلام الدائم إضافة إلى حبس السجن، ومع هذا لم يؤثر توقه للإفراج ونيل الحرية على حسابات القدس المزروعة في أعماقه.. لم يكن الأمر سهلًا وكنا في حينها نتهافت على أخبار الإفراجات بينما علاء يذكر بضياع القدس وتراجع المد الثوري الذي لا حل سواه لتحرير القدس، لم تثنه أو تفت في عضده أن يطلق سراح المئات من بين يديه من سجن عسقلان بعد توقيع اتفاق أوسلو وما تلاه من الاتفاقيات، بقي شامخًا كالطود العظيم ينافح عن أفكاره ويطارد الأفكار الغريبة التي دخلت عالم السجون، بقي ثائرًا تتعلق روحه بحريته وحرية القدس معًا، لا يتصور أبدًا أن ينال الحرية قبل أن تنال القدس حريتها.

    البازيان في سجنه يقود حركة تحرر على صعيد الفكر والروح ويبقى في مواجهة الطوفان، لم يطلقوا سراحه ولم يشفع له السلام المزعوم رغم فقدان بصره، الاحتلال يخشى البازيان الضرير، كل اتفاقيات السلام عجزت عن إطلاق سراح ضرير كان له ما يزيد على ربع قرن إلى أن أتته حريته على طبق من ذهب.. تنسم هواء الحرية ورأى ببصيرته إشراقة قبة الصخرة رغم أنف الاحتلال ورغم أنف كل الاتفاقيات، خرج البازيان مرفوع الهامة في صفقة وفاء الأحرار.. خرج حرًا دون أن تمس روحه أية لوثة من لوثات ما كان يجري على طاولة المفاوضات.

    عاد البازيان إلى حارة السعدية بجوار حبيبه الأقصى المبارك، أيامًا معدودات تزوّج فيها مقدسية لينجب طفلة مقدسية وليتابع طريق الحياة التي يشقها والاحتلال كارهًا يكاد يتميز من الغيظ.

    وسط ظلامهم وفي ظل لحظة غاب فيها الوعي الإنساني انقضوا عليه من جديد، يا للهول هذا الاحتلال بكل جبروته يخشى من ذاك الثائر الضرير الساكن مع زوجته وطفلته والمسجد الأقصى، احتلال لا يحترم اتفاقية أو أي قيمة إنسانية أو عرف تعارف عليه البشر.. عاد البازيان ببصره وبصيرته إلى عسقلان وشطة وايشل ونفحة وهذا الميدان الفسيح الذي لا ينحني فيه البازيان إلى أي شيء.. يحافظ على التحامه بالقدس في غياهب ظلامهم ويحاول جاهدًا بنبضه النقي الساطع أن يبدد شيئا من هذه العتمة..

    هو ومن معه من الرجال لا يغيب عن خاطرهم ولو لحظة واحدة لحظة إشراقة شمس حريتهم وحرية قدسهم معا دون انفكاك أحدهما عن الآخر.