فلسطين أون لاين

​الطفلة المقدسية مرح بكير.. براءةٌ غيّبَتها سجون الاحتلال

...
القدس المحتلة / غزة - فاطمة الزهراء العويني

"أهي جائعة أم عطشى؟! هل تنام جيدًا؟! هل تعرّض لها أحدهم بسوء؟!".. تساؤلات لا تفارق مخيلة والدة الأسيرة الطفلة المقدسية "مرح بكير"، منذ أن انتُزعت ابنتها البكر من أحضانها لتُلقى في غياهب سجون الاحتلال الإسرائيلي، لا تفارقها الهواجس والتخيلات السوداوية عن وضع ابنتها في المعتقل، تعدّ الأيام لموعد زيارتها لتطمئن عليها، تسألها مراراً عن حالها فتؤكد الصغيرة أنها بخير، لكن عينيها تشيان بألمٍ تقرؤه أمها، فتعود أدراجها وقد تضاعف همها..

لا محرّمات

والدة الطفلة، "سوسن المبيض" يساورها الخوف كلما خرج أحد أبنائها من المنزل خشية ألا يعود إلى أحضانها كما حدث مع مرح، فهي على قناعة بعدم وجود أي محرّمات في تعامل جيش الاحتلال مع الأطفال المقدسيين، سواء كانوا إناثاً أو ذكورًا، فهو يستهدف الطفل من عمر تسع سنوات ويستبيح اعتقاله وحبسه منزلياً.

فالاحتلال لا يعدّ مَنْ بلغ التاسعة من عمره طفلاً غير مدرك لما يدور من حوله، مما جعل الأهالي في حالة خوف دائم على أبنائهم، خشية ألا يعودوا إلى بيوتهم في أي لحظة، وفق المبيض.

وتعود بالذاكرة إلى تلك اللحظات الأليمة التي كانت وما زالت مفصلية في حياتها يوم أن حملت لها مكالمة هاتفية خبر إصابة ابنتها البكر مرح (كان عمرها 16 عاماً ونصف العام) برصاص الاحتلال، في الثاني عشر من أكتوبر عام 2015 (إثر اندلاع انتفاضة القدس)، بعد خروجها من مدرستها، إذ باغتها أحد أفراد شرطة الاحتلال بإطلاق النار عليها، إثر مناداته لها باللغة العبرية التي لا تفهمها، وبالتالي عدم ردها عليه.

تقول المبيض: "أطلق الشرطي الإسرائيلي على ابنتي 12 رصاصة اخترقت يدها اليسرى لتنزف نزفاً شديداً، ولم يكتفِ الجنود بذلك بل تجمعوا حولها وتركوها تنزف لمدة ساعتين ونصف، إلى أن قرروا نقلها لمستشفى (هداسا عين كارم) لصعوبة وضعها الصحي".

المبيض هرعت إلى المستشفى، لكن الاحتلال منعها من رؤية مرح التي تُركت داخل المستشفى تنزف لمدة سبع ساعات، إذ رفض الأطباء إدخالها غرفة العمليات بحجة أنها "إرهابية" ويجب ألا يتم علاجها، عندما حاولت رؤيتها قال لها جنود الاحتلال: "مرح بطلت الك صارت النا".

وتوضح: "لم يكتفوا بذلك، بل نقلوني أنا ووالدها للتحقيق في (المسكوبية)، دون أن يطمئنونا عليها، كان موقفاً غايةً في الصعوبة، بأنْ أُجبر على ترك ابنتي تنزف وأقتاد للتحقيق وأنا أفكر فيها وأتخيلها وهي تتألم دون أن يمد لها أحد يد المساعدة".

خلال فترة التحقيق، قامت المحامية، نيابةً عن العائلة، بالتوقيع على موافقة لإجراء عملية جراحية لمرح لاستخراج الرصاصات التي اخترقت يدها، على أن يجري لها الأطباء عمليات أخرى في وقت لاحق، وهو ما لم يحدث حتى اللحظة، إذْ تعاني مرح من أوجاعٍ شديدة وتشنجات في يدها لكن الاحتلال يرفض علاجها بحجة أن ذلك نتاجٌ طبيعي للإصابة، ولم تفلح كل محاولات أهلها من خلال مراكز حقوق الإنسان في إقناع الاحتلال بالسماح بعلاجها.

الوضع في المعتقل صعبٌ للغاية على مرح، تلك الفتاة غير الاجتماعية، فهي تواجه صعوباتٍ كثيرة في الاندماج خاصةً أنها صغيرة في السن والمعتقل فيه أسيرات من مختلف الفئات العمرية والمناطق الجغرافية.

وكانت المحكمة المركزية الإسرائيلية، في مدينة القدس المحتلة، قد أصدرت حكماً بالسجن الفعلي لثماني سنوات ونصف السنة، على بكير.

وما يزيد حياة مرح في السجن صعوبة رفض السلطة الفلسطينية لالتحاقها هي وغيرها من الأسيرات بالجامعة، لاشتراطها أنْ يكون معهن في المعتقل خمس أسيرات من حملة الماجستير وهو أمر صعب التحقق.

تقول المبيض: "مرح تمكنت من اجتياز المرحلة الثانوية، رغم صعوبة الوضع الصحي وظروف الاعتقال، لكن أملها وأملنا في الالتحاق بالجامعة تحطّم، فالعمر يمر دون أن تستطيع تحقيق ذلك الحلم".

حنينٌ لمرح

في منزل مرح، انقلبت حياة أسرتها رأساً على عقب، فوالدها فُصل من عمله في إحدى الشركات الإٍسرائيلية بعد أن عمل فيها لمدة 13 عاماً، وبقي لمدة كبيرة دون عمل، فيما يفتقدها شقيقها وشقيقتيها كثيرا، خاصة "آخر العنقود" حلا، التي كانت مرح بمثابة الأم الثانية لها، فهذه الصغيرة ما فتئت تحتضن ملابس شقيقتها لتشتم رائحتها كلما داهمها الحنين إليها.

تفتقد الأسرة مرح كلما اجتمعت على مائدة الطعام، خاصة في أيام العطل الرسمية، تقول المبيض: "كنا نجتمع سويًا مثلاً يومي الجمعة والسبت، ونحضّر سوياً فطوراً مميزاً، ونجلس لنتبادل الأحاديث لمدة طويلة، توقفنا عن ذلك لمدة طويلة إثر اعتقال مرح، ثم عاودنا اللمة لكن بغصة شديدة لافتقادنا إياها".

وتضيف: "نفتقدها بشدة في شهر رمضان، حيث تتجمع الأسرة لإعداد طعام الإفطار، وفي الأعياد حيث كنا نحضر كعك العيد سوياً، وفي كل مناسبة سعيدة تمر علينا".

وتؤكد أنه من الصعب عليها وعلى زوجها تقبل وجود ابنتهما كفتاة في المعتقل، فالقلق ملازم لهما منذ اعتقالها، "فلن أرتاح حتى تخرج ابنتي من السجن وتعود إلى حضني، فاعتقال الفتاة يكسر ظهر الأهل، لو أنها شاب لكان الأمر أهون، فأنا لا أستطيع احتمال السماع عن التفتيش العاري مثلاً، لا أتخيل أن ابنتي تتعرض لذلك".. تقول والدتها.

وتبين: "في أيام جلسات المحكمة (تُنقل إليها عبر البوسطة) لا أستطيع النوم وأنا أفكر فيما تتعرض له من صعوبات وإهانات من السجناء الجنائيين، لا يغمض لي جفن حتى تنتهي فترة المحكمة".

وتقول: "صعبٌ عليَّ أن يمر العمر وابنتي ليست في حضني، كم أود لو أنَّ ما أعيشه مجرد كابوس لا حقيقة، ينتهي قريباً وتعود ابنتي لتستأنف حياتها الطبيعية".