السابع من يناير/ كانون ثاني الجاري يوم فارقٌ عاشته عائلة "جنيد" القاطنة في مدينة جباليا شمال قطاع غزة، زار الحزن بيت العائلة بلا استئذان، لاستشهاد فلذة الكبد "محمد فتحي جنيد" (23 عاما)، بكت قلوب الأهل قبل عيونهم.
بعد أن تكحلت السماء باللون الأسود، وساد السكون المكان، ونام الناس، أمضى محمد ليلته الأخيرة قبل يوم الاستشهاد مرابطا في صفوف كتائب القسام على الثغور الشرقية لمدينة جباليا، ليخلد آخر ذكراه بمواقف تكتب في سجلات البطولة، وقد استشهد إثر انفجار عرضي.
البداية، في صباح السابع من يناير بعد أن عاد محمد من رباطه، أخذ قسطا من الراحة والنوم، وحينما أشارت عقارب الساعة إلى العاشرة صباحا، تناول طعام الإفطار، وهمّ بمغادرة المنزل إلى أرض زراعية ملاصقة للبيت.
تروي والدته امتياز جنيد (أم ثابت) (47 عاما) التفاصيل لـ"فلسطين": "كانت نظراته قبل خروجه من المنزل غريبة، كأنها نظرات وداع".
الحادية عشر صباحا، أصوات سيارات إسعاف على عتبات المنزل، وصوت ينادي على شقيق محمد ووالدته "يحيى.. أم ثابت"، والمزيد من الأصوات المتسارعة تأتي إلى المنزل.. "عرفت حينها أن محمد شهيد، وهذا ما حدث بانفجار عرضي تعرّض له في أرض قرب المنزل".. تقول الأم الثكلى.
تلاحمت دماء محمد الطاهرة بتراب الوطن، وكتب رسالة جديدة باللون الأحمر تبرهن أن المقاومة خيار الشعب الفلسطيني، لتعبيد طريق الحرية والخلاص من الاحتلال.
بهدوءٍ تتسلل الكلمات الحزينة من صوت والدة الشهيد: "هذه أعمار بيد الله والإنسان لن يخلد.. البذل بالروح أقصى غاية الجود، وأغلى شيء أن يضحي الإنسان بنفسه ولا يبخل على دينه".
تحتسي جرعة من صمت بعدما أذابها ألم الفراق، وتوجه رسالتها إلى أمهات فلسطين: "الأقصى يحتاج إلى تضحية، وهذا جهاد في سبيل الله (..) إذا منعنا أولادنا عن الجهاد فمن سيدافع عن الأقصى؟!".
هذه الأم الصابرة المحتسبة، تودع شهيدها الثاني بعد أن ودعت ابنها الأكبر ثابت (20 عاما) في معركة الفرقان، عام 2008، وحملت على كاهلها حملا ثقيلا، فزوجها تعرّض لحادث سير أثناء عمله في الداخل المحتل وأصبح مقعدا من ذوي الاحتياجات الخاصة، فعملت هي سكرتيرة في إحدى مدارس الشمال، بعد أن أكملت تعليمها.
حياء يفوق "الفتيات"
محمد "الرجل الصامت"، لم تعرف والدته بانضمامه لكتائب القسام إلا قبل عدة أشهر، حينما عاد إلى البيت من رباطه وكان الباب مغلقا، فاضطر للاتصال بها على هاتفها لتفتح له الباب، وحينها وجدته بلباسه العسكري.
تتحدث والدة محمد عن بعض صفاته، وكأن شريطًا من الذكريات يمرّ أمامها: "هو شاب خلوق يفوق الفتيات في الحياء، لدرجة أنه إذا تحدث معي ومع شقيقاته لا ينظر إلينا لشدة حيائه، كان يحافظ على صيام الإثنين والخميس، وعلى صلاة الفجر، ويحرص على زيارة شقيقاته".
ذكريات جميلة ومواقف لا تُنسى.. تنتقي منها "أم ثابت" بعض ما حدث في الفترة الأخيرة من حياة نجلها، حينما أنشأ مشروعًا لتربية الدواجن في منزله كهواية، ونجح هذا المشروع، "كان يسهر طوال الليل ويراقب جدول الكهرباء حتى أنتج نحو 50 دجاجة وباعها".
هل ستعاود تكرار المشروع؟ والدته تسأله، محمد يرد على الفور "لا.. أشغلتني عن الدورات سأعود إلى التدريبات والدورات العسكرية".
ترعرع محمد في المساجد، وواصل تعليمه إلى أن تخصص في العلوم الشرطية والقانونية في كلية العودة بمدينة غزة.
الزائر الغريب
دعونا نقلب في حياة الشهيد العسكرية، محمد، كما يصفه قائدٌ ميداني بكتائب القسام خص "فلسطين" بهذا الحديث: "كان شابًا فريدًا من نوعه رغم صغر سنه، كنت أعرف أنه ليس شابا عاديا، حتى أن رفاقه كانوا يلتقطون صورا تذكارية معه لأنهم كانوا يتوقعون استشهاده، فسماته أظهرت ذلك".
"الرجل الصامت، قليل الكلام، كثير الفعل".. يقولها مفتخرا بمحمد الذي لطالما اتسم بالسمع والطاعة في كل ما يُطلب منه، وما يزال يصفه: "كان من الغرباء الذين يعيشون بيننا مدركين أنهم في حياة مؤقتة لشدة إخلاصه".
محمد شخص لا تفارقه البسمة، كتوم السر، حتى أن أهل بيته لا يعرفون طبيعة عمله في الكتائب، وقد رشّحته مهارته للانضمام لسلاح الهندسة.
وأمام لوعة الشوق ومرارة الرحيل، يذكر أنه في يوم استشهاد محمد كان رفاقه الذين اعتادوا على تواجده معهم في مهامهم كافة يفتقدونه في تلك المهمة التي تغيب عنها لانشغاله في الرباط، فمازح القائد الميداني رفاق الشهيد حينها "لو محمد موجود معكم كان تنشطتم؛ لهمته في العمل".
يعود القائد الميداني إلى لحظة انضمام محمد للقسام قبل عام، ويقول: "ترددنا بقبوله؛ نظرا لأن شقيقه وصهره شهيدان، ووالده من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكن بعد إلحاح منه تم قبوله، وأبدى مهارة عالية".