تباعدت الأمكنة حيث يقضم جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية أراضي مأهولة وزراعية، ويعزل آلاف الفلسطينيين، بالتزامن مع الحصار الذي يرمي إلى الفتك بقطاع غزة، لكن يبدو أن كل هذا باء بالفشل، عندما رفع مُقعد فلسطيني علم وطنه على عامود في المنطقة الحدودية شرقي غزة، وتعانقت نداءاته مع آخر يهتف للقدس أمام دبابات الاحتلال في الضفة.
كان العشريني إبراهيم أبو ثريا، الذي بترت قوات الاحتلال قدميه في قصف نفذته طائراتها بغزة سنة 2008، واحدًا من هؤلاء الفلسطينيين الذين أوصلوا رسالة واضحة مفادها أن القدس تجمع الشعب الفلسطيني، وإنْ فرَّقته حواجز الاحتلال وجدرانه العنصرية.
لم يلقَ قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس المحتلة "عاصمة" لدولة الاحتلال، من "أبو ثريا" إلا الرفض، قائلًا وهو يتظاهر على مقربة من الحدود الشرقية لحي الشجاعية شرق مدينة غزة: "بوصل رسالة لجيش الاحتلال الصهيوني.. هذه الأرض أرضنا، ومش حنستسلم. أمريكا لازم تنسحب من القرار الذي عملته".
وأول من أمس، ظهر جليا عجز جنود الاحتلال الإسرائيلي، عندما فشلوا في الوقوف أمام هذا الفلسطيني المقعد، المفعم بالإرادة الوطنية، وأطلقوا النار الحي صوب رأسه، فارتقى شهيدا.
لكن استشهاد "أبو ثريا" لم يؤدِّ إلا لرحيله جسدًا، بينما بقيت فكرته ومطالبه العادلة في نفس وعقل كل فلسطيني.
وفي اليوم نفسه، كان تراب غزة يرتوي بدماء الشهيد ياسر سكر (23 عاما)، ويروي تراب الضفة دم الشهيد باسل إبراهيم (29 عاما)، من بلدة عناتا شرق القدس المحتلة، فضلا عن إعلان وزارة الصحة عن شهيد رابع، هو أمين محمود عقل (19 عاما) الذي ارتقى بعد فشل محاولات إنقاذه إثر إصابته برصاصات عدة أطلقها جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال مواجهات في محيط مستوطنة بيت إيل شمال مدينة البيرة وسط الضفة.
وفي السادس من الشهر الجاري، أقدم ترامب على ما امتنع عنه أسلافه من الرؤساء الأمريكيين، الذين دأبوا منذ قرار الكونغرس عام 1995 نقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى القدس المحتلة، على توقيع قرارات بتأجيل نقل السفارة لمدة 6 أشهر.
ترامب، المولود سنة 1946، ذو الشعر الأصفر الذي يحمل علامات شيب يبدو أنها لم ترشده إلى التمييز بين الاحتلال الجلاد، والفلسطينيين الضحية، خرج على شاشات التلفاز معلنا القدس "عاصمة" لدولة الاحتلال. جاء ذلك في ظل انشغال كثير من الدول العربية بأزماتها الداخلية.
ولم تكن القنبلة السياسية التي فجرها ترامب، مباغتة لأروقة السياسة العربية، إذ سبق أن أعلن خلال لقائه رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في نيويورك في سبتمبر/أيلول 2016، أنه سيعلن "القدس عاصمة موحدة لـ(إسرائيل)" في حال فوزه بانتخابات الرئاسة الأمريكية.
ويسود اعتقاد على نطاق واسع، بأن إعلان ترامب الذي فجر موجة مواجهات فلسطينية مع الاحتلال واحتجاجات عربية ودولية لا تزال تتواصل ارتداداتها، جزء مما أشيع عن "صفقة القرن" لتسوية القضية الفلسطينية، برؤية إسرائيلية، تتضمن تطبيعاً عربياً مع (إسرائيل).
ويعتقد مراقبون، أن ترامب استغل الحالة العربية الهشة، وتحالف بعض الأنظمة العربية مع الولايات المتحدة، لتمرير قراره دون ضجيج، وهو ما دحضه الحراك الشعبي العارم ليس في فلسطين فحسب، بل في مدن وعواصم عربية وعالمية أيضًا.
تفعيل النضال الشعبي
"قرار ترامب لا يعني شيئا بالنسبة لنا، لإصرارنا على النضال ضده.."، هذا ما يقوله أمين عام المبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي.
ويضيف البرغوثي، لصحيفة "فلسطين"، أن قرار ترامب سيأتي بنتيجة عكسية، من خلال تفعيل الطاقات الشعبية الفلسطينية، وإدراك أبناء الشعب الفلسطيني أنه لا طريق أمامهم سوى النضال والمقاومة، فضلا عن تفعيل حركة التضامن الدولية مع الفلسطينيين.
لذلك فإن ترامب و(إسرائيل) –والكلام لا يزال للبرغوثي- هما في "حالة عزلة تامة"، مشيرا إلى الإجماع الدولي على رفض القرار الأمريكي بشأن القدس المحتلة.
ويشدد القيادي الفلسطيني، على ضرورة الاستمرار بالانتفاضة الشعبية وتطويرها وتعزيزها.
وربما يتهيأ لترامب، الذي شوهد في حلبات المصارعة يوما، أنه قادر على سلب حقوق الفلسطينيين، بقوة السلاح، وسيطرة الاحتلال والاستيطان، لكن تاريخ الشعب الفلسطيني، فضلا عن القرارات والقوانين الدولية، يثبتون أن الرئيس الأمريكي لم يجد قراءة التاريخ والجغرافيا.
هكذا، تفشل اليوم جميع الرهانات الأمريكية على حالة الانقسام الفلسطيني السياسي، والوهن العربي، بتوحد الفلسطينيين على قلب رجل واحد، وهتافهم: "إلا القدس".