"هل تعلم متى أُنشئت أول بؤرة صهيونيةٍ في فلسطين؟"، قلةٌ هم من يعرفون الإجابة عن هذا السؤال، مع أن تفاصيل الإجابة تمثل بمنتهى البساطة بداية التأريخ لعهد الاستيطان اليهودي فوق هذه الأرض، بعبارةٍ أوضح "لتاريخ سرقة أرض فلسطين العربية التي لم يذكر التاريخ أن شعبًا استوطنها قبل الكنعانيين أصلًا".
يقول أستاذ الجغرافيا المشارك في الجامعة الإسلامية د. نعيم بارود، في دراسته بعنوان: (القدس.. الاستيطان والتهويد): "إن أول بؤرةٍ استيطانية صهيونية أُنشئت في فلسطين كانت في عام 1855م، حينما اشترى اللورد "مونتيفيوري" اليهودي الديانة البريطاني الجنسية أرضًا قرب بركة سليمان جنوب غرب القدس، لتبدأ من هنا فكرة إقامة (القدس الكبرى)".
هذا المخطط الذي يسعى الاحتلال إلى تنفيذه بإجراءات "تهويد مدينة القدس" وإقامة الكتل الاستيطانية حولها بات اليوم يمضي بخطىً أسرع، خصوصًا بعد "الضوء الأخضر" الذي أطلقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلانه القدس عاصمة للكيان المحتل.
بدايات اليهود في القدس
ما يسمى "إسرائيل" منذ إتمامها احتلال مدينة القدس عام 1967م عمدت إلى إحداث تغييرات كثيرة في طبيعة المدينة وتركيبتها السكانية، فصادرت أكثر من 18 ألف دونم، وأقامت تسع عشرة مستوطنة تزيد مساحاتها على 13 ألف دونم، تضم نحو 57 ألف وحدة سكنية، ويقيم فيها أكثر من 152 ألف مستوطن.
ويمتد الحزام الاستيطاني الذي يحيط بمدينة القدس بمحاذاة جدار الفصل العنصري من مستوطنة "هارحوما" الإسرائيلية المقامة على "جبل أبو غنيم" جنوب شرق القدس، مرورًا بالغرب حتى مستوطنة "جفعات هامتوس"، ثم مستوطنة "جيلو" الواقعة جنوب غرب المدنية، وصولًا إلى كتلة "غوش عتصيون" الاستيطانية جنوبي القدس وبيت لحم.
بالعودة إلى دراسة د. بارود المذكورة أعلاه نجد أن عدد اليهود في مدينة القدس عام 1170م كان أربعة أفراد فقط، ازداد في عام 1267م ليصل إلى عائلتين فقط، وبدأ اليهود في عام 1520م يذكرون حائط البراق على أنه "الحائط الغربي للهيكل"، فتوجهوا إليه وصلوا أمامه، وكل القصد تحقيق أطماعهم الصهيونية.
ويتابع: "في العهد العثماني حاول اليهود اشتراء أراضٍ في مدينة القدس، ولكن قوانين الخلافة العثمانية لم تسمح لهم، ومع بداية عمل القناصل الأجانب هناك تمتع اليهود بحماية هائلة، تحديدًا من قبل القنصل البريطاني".
تغير ديموغرافي متسارع
تشير دراسة د. بارود إلى أنه بعد اشتراء اللورد مونتيفيوري الأرض قرب بركة سليمان بدأت تنتشر المستوطنات، وبدأت أعداد اليهود تزداد في مدينة القدس حتى أصبح عددهم عام 1918م عشرة آلاف مستوطن، شكلوا ما نسبته 25% من مجمل السكان في مدينة القدس.
وفي عام 1922م _تخبرنا الدراسة_ ارتفع عدد اليهود في مدينة القدس ليصبح 33900 مستوطن شكلوا ما نسبته 54% من مجمل السكان، في حين كان العرب 28600 نسمة فقط، وفي عام 1931م شكلت نسبة اليهود في مدينة القدس 56.6% من مجمل سكان المدينة، وفي عام 1944م أصبح سكان المدينة 155.314 نسمة بنسبة 61.12% لليهود.
وتشير إلى أن عدد المستوطنين اليهود في المدينة المقدسة ارتفع من عشرة آلاف في 1918م إلى (94942) مستوطن عام 1948م، أي بزيادة 85 ألف مستوطن، بسبب الهجرات المتتالية وتدفق اليهود، كل هذا يسبق حرب 1948م، واحتلال اليهود الجانب الغربي من المدينة، لتصل نسبة اليهود وقتها إلى 97% من سكان المدينة.
تهويدٌ واستيطان معًا
عن واقع الاستيطان اليوم يقول خبير الأراضي والاستيطان في الضفة الغربية عبد الهادي حنتش لـ"فلسطين": "مساحة مدينة القدس كاملة هي 672 كيلو متر مربع، واحتلت قوات الاحتلال الجزء الغربي من المدينة في حرب 1948م، لتبدأ معها إقامة المستعمرات في كل المناطق بالمدينة، خاصة المحاذية لغربها".
ويفرّق حنتش بين الاستيطان والتهويد بالقول: "الاستيطان يعني بناء المستعمرات التي قد تؤدي حلول سياسية إلى تفكيكها، تمامًا كما حدث في تفكيك مستعمرات الاحتلال في سيناء وقطاع غزة عام 2005م، وإزالتها".
أما التهويد _يكمل_ "فهو التغيير الكامل لطبيعة المدينة، ويعني أن الاحتلال يريد البقاء في هذه المناطق ولا يفكر بالانسحاب، ويسعى إلى تطبيق القانون الإسرائيلي فيها، فيعمل على تغيير المعالم الجغرافية، وأسماء المناطق، ومحو كل ما يمكن أن يثبت أن المدينة غير يهودية".
مشروع القدس الكبرى
قوات الاحتلال رفضت في أثناء حرب 1948م وقف إطلاق النار _تبعًا لإفادة حنتش_ لأن جيشها لم يكن قد وصل بعد إلى مدينة القدس، ولكن لما وصل واحتل الجانب الغربي من المدينة وقتها وافقت على وقف الحرب، لأن أحد الأهداف الأساسية لها تحقق، وهو الوصول إلى القدس.
وفي حرب 1967م احتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي باقي الأراضي الفلسطينية، ومنها الجانب الشرقي من مدينة القدس، لتصبح كل القدس تحت الاحتلال، "فيبدأ كيان الاحتلال بضمّ الجانب الشرقي منها في عام 1980م، مع عدم اعتراف المجتمع الدولي آنذاك بإعلان الكيان المدينة المقدّسة عاصمة لليهود".
ويشير حنتش إلى أنه منذ اللحظة الأولى لاحتلال القدس بدأت مشاريع التهويد والاستيطان في المدينة ومحيطها، حتى وصل عدد المستعمرات في الوقت الحالي إلى 19 مستعمرة، "هذا بعد تغيير معالم المدينة بصورة كبيرة، وتغيير حدودها التي وضعتها البلدية".
ويلفت إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى إلى تغيير العوامل الديموغرافية والجغرافية والسياسية والدينية في المدينة، ذلك حتى يصبح الفلسطينيون الموجودون فيها حاليًّا "أقلية".
وتبلغ مساحة البلدة القديمة داخل الأسوار 900 دونم، سيطر الاحتلال على 750 دونمًا منها، ولم يبق إلا 150 دونمًا للفلسطينيين الآن.
يبين خبير الأراضي والاستيطان في الضفة الغربية أن المساحة التي سيطر عليها الاحتلال في قلب المدينة بدأ طابعها يتغير بعد تمركز البؤر الاستيطانية والمشاريع الإسرائيلية الهوية، معلقًا بالقول: "الاحتلال لا يزال مصرًّا حتى اللحظة على فرض نفسه على أرض الواقع حتى يصل إلى مشروع القدس الكبرى، بضم الكتل الاستيطانية التي تقع في حزام مستوطنات القدس، لتصل إلى المساحة التي يريدها، وهي ستة آلاف كيلو متر مربع".
ويزيد على ذلك قوله: "بين مدينة القدس والكتل الاستيطانية المحيطة بها فراغات ومساحات، وأراضٍ لفلسطينيين يعمل الاحتلال على الاستيلاء عليها وطرد الفلسطينيين منها، ضمن خطة المشروع نفسه (القدس الكبرى)".
المطلوب صمودٌ ومقاومة
ويذكر أنه منذ اللحظة الأولى لاحتلال المدينة سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى محو قرى فلسطينية كاملة في محيط القدس، وإقامة الكتل الاستيطانية مكانها، في محاولة لتغيير العامل الديموغرافي وطمس التاريخ وقلب الحقائق، وتحويل طابع المدينة من إسلامي عربي فلسطيني إلى يهودي.
وفي سياق الحديث عن إجراءات الاحتلال الإسرائيلي لتغيير طابع المدينة يقول: "من ذلك سحب هويات المقدسيين، وترحيل عدد كبير منهم إلى خارج المدينة، وهدم المباني الفلسطينية بحجة عدم وجود تراخيص موافقة عليها بلدية الاحتلال، وجلب المستوطنين وإحلالهم سكانًا مكان الفلسطينيين".
ويضيف: "في اليوم الثاني مباشرة لإعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي أُعلن مشروع لبناء اثني عشر ألف وحدة استيطانية جديدة في القدس"، مشيرًا إلى أن عدد المستوطنين الآن في القدس يزيد على 270 ألف مستوطن، وهو يقترب من عدد الفلسطينيين الحالي فيها، وهو 352 ألف مواطن فلسطيني يقيمون في الجانب الشرقي من القدس.
وعلى قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال يعقب: "العامل المشترك الأكبر بين أمريكا والكيان الإسرائيلي هو أن أمريكا أقيمت على أنقاض الهنود الحمر، والكيان الإسرائيلي أقيم على أنقاض الشعب الفلسطيني، لهذا لا عجب من تأييد أمريكا للكيان في كل ما يريد".
ويتابع: "قرار ترامب يمنح الإسرائيليين تفويضًا من أكبر دولة في العالم للاستمرار في المشاريع الاستيطانية، وخاصة في مدينة القدس، لتنفيذ مشروعهم النهائي (القدس الكبرى)".
وفيما يتعلق بالدور الفلسطيني يبين أن المطلوب هو الصمود، واستخدام كل وسائل المقاومة، حتى لا يحدث تهجير جديد، ورفع الصوت عاليًا واختراق الساحة الدولية.