عاشت في فلسطين العديد من الحضارات العريقة، إنها دولةٌ ذات تاريخ عتيق مميز، تعاقبت عليها العديد من الحكومات نظرًا إلى موقعها الإستراتيجي ومكانتها الدينية العظيمة، تقلبت سنوات حكم فلسطين بين هذه الدولة وتلك إلى أن وصلت سلسلة السلطات الحاكمة إلى عهد الدولة العثمانية، ومن بعدها احتلها البريطانيون لتهود بطريقةٍ ممنهجة حتى تسلم للصهاينة، وتبدأ المعاناة الفلسطينية حتى هذا اليوم، فكيف بدأ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟، ومتى؟، وكيف مهد لذلك حتى سقطت فلسطين؟
لنتعرف إلى التفاصيل عبر "فلسطين"، يرويها لنا الأستاذ الدكتور أكرم محمد عدوان، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بقسم التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية-غزة.
بين الدكتور عدوان أن فلسطين كانت تقع تحت السيطرة العثمانية حتى تاريخ 24-12-1917م، حين دخلتها القوات البريطانية بقيادة الجنرال البريطاني "ألنبي"، وسقطت القدس بأيديهم ثم باقي فلسطين.
تقسيم المشرق الإسلامي
وقال: "تمكّن الاحتلال البريطاني من فلسطين بعد الاتفاقية السرية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا المسماة "سايكس-بيكو" عام 1916م، وكان أهم جزء في هذه الاتفاقية تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية في منطقة المشرق الإسلامي، المتمثلة في مصر وبلاد الشام وباقي المنطقة العربية".
في أثناء المباحثات السريّة وخلال وضع بنودها اتفقوا على كل شيء في المشرق الإسلامي، وقسمت الدول بلا أي خلاف، يضيف د. عدوان: "إلا أنهم اختلفوا على فلسطين، فكل الأطراف كانت تريد السيطرة عليها، وهذا لأهمية هذه المنطقة السياسية والدينية والإستراتيجية، وبالنهاية اتفقوا على أن تكون فلسطين _وفيها القدس_ "دوليةً" تخضع لسلطة الدول الثلاث، ووضعوها على الخريطة "نقطةً سوداء" كمنطقةٍ دوليّة".
وأتبع: "وفي 2/11/1917م أعطت بريطانيا وعدًا للحركة الصهيونية بإنشاء دولة يهودية صهيونية على أرض فلسطين، وهو وعد بلفور".
إذًا بريطانيا منحت الحركة الصهيونية هذا الوعد وهي لا تملك مترًا واحدًا في فلسطين، ثم لم تصدق مع أحد إلا مع اليهود، فضربت عرض الحائط بكل من اتفاقية سايكس بيكو، ومراسلات الشريف حسين بن علي والسير هنري مكماهون، واحتلت فلسطين عسكريًّا في ديسمبر 1917م، على وفق إفادة الدكتور عدوان.
كان زرع هذا الكيان في فلسطين من أجل تحقيق مصالحهم، والتخلص من إزعاجات اليهود الدائمة، فجاء الاحتلال البريطاني خدمةً وتنفيذًا لوعد بلفور، إذ كان بعد أقل من شهر من هذا الوعد المشئوم.
وروى د. عدوان لـ"فلسطين": "احتلّت بريطانيا فلسطين والقدس، فذهب ألنبي إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وقال: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)".
مراحل الاحتلال البريطاني
وبين أن الاحتلال العسكري لفلسطين قسّم إلى مراحل: أولها مرحلة الاحتلال العسكري 1917- 1920م، إذ قامت بريطانيا بالعديد من الإجراءات العسكرية، مثل تعيين قائد عسكري، وفتح السجون، وسجن أكبر عدد ممكن من المعارضين، والأخطر كان إشراك المنظمة والوكالة الصهيونية في إدارة شئون فلسطين، وهي وكالة غير رسمية.
كان ذلك محور السياسية البريطانية، ومقدمة لتمكين اليهود والحركة الصهيونية من فلسطين والقدس من 1917م حتى 1948م.
أما المرحلة الثانية فمرحلة الحكم المدني أو مرحلة الانتداب البريطاني أو مرحلة حكم هربرت صاموئيل 1920-1925م، إذ اجتمعت عصبة الأمم التي كانت قد أنشئت حديثًا وقررت انتداب بريطانيا على فلسطين رسميًّا، لتبدأ مرحلة ما يسمى الانتداب البريطاني، وأول مفوض رسمي للحكم كان الصهيوني هربرت صاموئيل، وقد اختير خصيصى لصهيونيته، والحديث للدكتور عدوان.
كانت مرحلة حكم صاموئيل من أسوأ المراحل التي مرّت بها فلسطين، إذ اتخذ قرارات سياسية واقتصادية واجتماعية هدفها تهويد فلسطين والقدس، قال: "من تلك القرارات تشجيع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين بأعداد كبيرة، إذ استقر في فلسطين 16 ألف يهودي دون أي جوازات، إلى جانب مصادرة الأراضي الفلسطينية، وإصدار القوانين التي تشجع على الهجرة ومصادرة الأراضي ومنحها لليهود والحركة الصهيونية، وإنشاء العديد من المستعمرات فضلًا عن ملء السجون والقتل والتشريد ومصادرة الحقوق الفلسطينية، وخصوصًا في القدس".
فبدلًا من مساعدة الشعب الفلسطيني على نيل حقوقه واستقلاله كما نصّ صكّ الانتداب استخدمت سياسة مفادها تهويد فلسطين، الذي استمر خمس سنوات أسس فيها بدقة للمشروع الصهيوني.
"هذه السياسة الخطيرة أدّت إلى رد فعل فلسطيني قوي، وبدأت تظهر بعض الثورات الفلسطينية، مثل ثورة يافا (1920-1921م) التي امتدت إلى معظم المدن الفلسطينية، ومنها القدس، وقد استخدم الاحتلال فيها أبشع أساليب القمع" روى.
شرارة الثورات
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الثورات الفلسطينية الحقيقية (1925 -1936م)، إذ بدأ الشعب الفلسطيني يقاوم السياسة البريطانية في القدس، وامتدت تلك الحالة إلى باقي المدن الفلسطينية، ومن أهم الثورات التي اندلعت "هبّة البراق"، علق: "كانت هذه الهبّة هي الشرارة الرئيسة للدفاع عن القدس والمسجد الأقصى".
وقال: "في عام 1928م بدأ اليهود بدعم من بريطانيا العمل على السيطرة على بعض أجزاء المسجد الأقصى، وخصوصًا الحائط الغربي من المسجد والرصيف المقابل له، من طريق الذهاب هناك للصلاة فيه، وأخذ بعض المعالم الصهيونية من أجل فرض أمر واقع، كأخذ الحصر والجلوس في أماكن معينة، ووضع إشارات صهيونية خاصة بهم".
وأضاف: "وقع العديد من الشهداء والجرحى قارب عددهم 120 من الفلسطينيين، وقُتِل العديد من الصهاينة، واعتقل 26 فلسطينيًّا، وحُكم عليهم بالإعدام، ولكن خففت هذه العقوبة إلى السجن المؤبد عن 23 منهم، مع الحفاظ على عقوبة الإعدام بحق ثلاثة، هم: عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي"، كان هذا أول تصدٍّ حقيقيّ لمؤامرة بريطانيا للسيطرة على الأقصى، وقد انتهت بإفشال المشروع.
يتبع: "تدخلت عصبة الأمم في هذه القضية، وشكّلت لجنة تحقيق دولية ضمت دولًا ثلاثة، وحققت هذه اللجنة في الأحداث، وخرجت بنتيجة مهمة جدًّا، وهي أن "المسجد الأقصى والقدس وحائط البراق والرصيف المقابل له أرض وقف إسلامي، ولا يوجد لليهود ولا الحركة الصهيونية أي حقّ أو ادّعاء فيه، وكان هذا عام 1930م".
وفي عام 1931م هبّت ثورةٌ فلسطينية أخرى تصدى فيها الفلسطينيون للإجراءات البريطانية التعسفيّة ضد القدس وأهالي فلسطين.
الثورة الكبرى 1936م
ولا ننسى دور الشهيد عز الدين القسام الذي بدأ بأول عمل عسكري ضد الإجراءات البريطانية، واستشهد في عام 1935م في منطقة يعبُد بجنين، حيث هبت فيما بعد الثورة الكبرى عام 1936م، التي جاءت ردّ فعل فلسطيني على سياسة بريطانيا والحركة الصهيونية في تشجيع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين واغتيال القائد عز الدين القسام، وقد استمرت 6 أشهر، حسبما ذكر د. عدوان.
وبين أن "كل الجهود البريطانية فشلت في وقفها أو إيجاد حل لها، حتى استنجدت بالدول العربية ونجحت في إسكاتِها بناء على وثيقة تضمنت مجموعة من الوعود الواهنة، إذ شكلت أول لجنة تحقيق بريطانية رسمية باسم اللجنة الملكية بيل عام 1937م، وبدأت بالتحقيق الذي استمرّ مدة شهرين".
وقال: "خلصت اللجنة إلى اقتراح لحل القضية، ووضعتها في وثيقة من 404 صفحات باللغة الإنجليزية، أهم ما جاء فيها تقسيم فلسطين إلى دولتين دولة عربية ودولة يهودية، على أن تبقى "منطقة القدس" _وليس المدينة فقط_ تحت الانتداب البريطاني، لكن رفض ذلك العرب والشعب الفلسطيني، وكذلك اليهود إذ كانوا يريدون "القدس" عاصمةً لهم".
غضب صهيونيّ
وأضاف: "ثم شُكّلت لجنة فنية بريطانية أخرى باسم "وودهيد" عام 1938م، التي اقترحت تقسيم فلسطين إلى دولتين مع بقاء القدس تحت الحكم البريطاني، وخلص الأمرُ إلى أنه لا يمكن تطبيق أي اقتراح من اللجنتين لأسباب فنية تتعلق بالسكان وأعدادهم من كلا الدولتين".
وأتبع: "ثم أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض عام 1939م، في محاولة لتخفيف حالة التوتر الموجودة في البلاد، ولم يطبق منه أي شيء على أرض الواقع، إذ رفضته الحركة الصهيونية، وأعلنت المقاطعة والحرب على بريطانيا؛ فقد هاجموا المعسكرات والمخافر البريطانية، لأنه ينص على تقنين الهجرة الفلسطينية، وتقنين مصادرة الأراضي الفلسطينية، وأمام الغضب الصهيوني اضطرت بريطانيا إلى التراجع، واستمرت في سياستها السابقة نفسها".
نقلة نوعية
كانت بريطانيا أحد الأطراف الرئيسة في الحرب العالمية الثانية، ولذلك كان إصدارها الكتاب الأبيض عام 1939م، بهدف تهدئة الأوضاع الداخلية كي تتفرّغ للحرب.
وفي عام 1942م حدثت نقلة نوعية في تاريخ الحركة الصهيونية، حسب إفادة د. عدوان، وذلك عندما عُقِد مؤتمر "بالتيمور"، وهو صهيوني، وهو أول توجه صهيوني نحو الولايات المتحدة الأمريكية، لأن الصهاينة وصلوا إلى اقتناع أن دور بريطانيا صار ثانويًّا، وأن أمريكا هي صاحبة القرار في العالم.
وفي هذا المؤتمر صدرت عدة قرارات، من أهمها الدعم الأمريكي المفتوح للحركة الصهيونية للسيطرة على فلسطين والقدس، ثم تطورت الأحداث وصولًا إلى المشروع البريطاني الأمريكي "موريسون جرايدي" عام 1946م، وكان هذا المشروع تدخلًا أمريكيًّا حقيقيًّا وجدّيًّا في القضية، ويرمي إلى إيجاد "حلّ مناسب" للقضية الفلسطينية، وطرح عدة نقاط أيضًا كانت فيها القدس مغيّبةً إذ بقيت تحت الإدارة البريطانيّة.
أعقب ذلك مشروع المقاطعات الأربع، أي تقسيم فلسطين إلى مقاطعات، أما القدس فكما هي تحت الحكم البريطاني، ومن مشروع إلى آخر كان اسمه "الأنجلو أمريكي" عام 1946-1947م، وكان يمثل قمة التدخل الأمريكي في القضية وتلاشي الدور البريطاني نوعًا ما.
أضاف: "هذه المشاريع البريطانية الأمريكية نصّت منذ عام 1917م حتى 1948م على أن تكون القدس تحت الإدارة البريطانية، وألا تخضع لأي طرف آخر، وذلك لأهميتها الدينية والسياسية، لكنها جميعها فشلت بسبب الرفض الفلسطيني لتهويد فلسطين".
تخلٍّ بريطاني
وبين أنه أمام هذا الفشل "قررت بريطانيا التخلي عن القضية الفلسطينية ورفعها بالكامل إلى هيئة الأمم المتحدة التي أنشئت حديثًا عام 1945م، وهذا التخلي كان بعد أن استطاعت بريطانيا تمكين اليهود والحركة الصهيونية من القدس، ومن أمثلة هذا التمكين أن نسبة اليهود مع بداية الاحتلال البريطاني كانت لا تتجاوز 5%، أما عندما قررت بريطانيا رفع يدها عن القضية والتخلي عنها عام 1947م فأصبحت نسبة اليهود تتجاوز 45% على أرض فلسطين".
وهذا مؤشر واضح على مدى التآمر البريطاني على القضية والشعب الفلسطيني، لذلك لا يختلف اثنان في العالم أن بريطانيا هي المؤسس الحقيقي لما يسمى اليوم القضية الفلسطينية، واستكملت فيما بعد هيئة الأمم المتحدة عملية التهويد بإصدارها قرار التقسيم الذي حمل رقم (181) عام 1947م، ونصّ على تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة عربية والثانية يهودية، مع بقاء القدس تحت الإدارة الدولية (هيئة الأمم المتحدة)، هذا القرار الذي رفضه الشعب الفلسطيني في حينه وأسّس لوقوع حرب 1948م، التي نتج عنها إقامة الكيان اليهودي على أرض فلسطين في 14/5/1948م، ليبدأ ما يسمى اليوم قضية الصراع العربي الإسرائيلي.