فلسطين أون لاين

​وغادرَ معاليه

...
صورة تعبيرية عن الراتب الشهري
بقلم / د.علاء اللقطة

بقي يومان على موعد وصوله، الأعين معلقة بناصية الشارع حيث وجهة قدومه، والقلب يهفو حنينا وشوقا للقائه، وأم محمد تصبّر أبناءها وتمنّيهم بعد أن بلغ بهم الانتظار مداه..

تحكي لهم عن مآثره الجليلة عندما كان سندا وعونا لهم يوم تخلى القريب والغريب عنهم، وكيف أنه لم يدخر جهدا لرسم البسمة على شفاههم وإدخال السرور على قلوبهم رغم إمكانياته المتواضعة.

كانت إذا خلت به آخر الليل تنظر إليه وقد تمدد أمامها منهكا، وأطرافه المتناثرة على السرير تؤذن باقتراب الأجل فيزيدها قلقا واضطرابا، ثم تدور ببصرها إلى السماء والدمع يتقاطر من مقلتيها، تتمتم بصوت مرتجف ألا يحرمها الله وأبناءها منه، وأن يطيل بقاءه أياما مديدة.

لقد طالت غيبته هذه المرة، وحال بينهم وبينه الحصار البغيض الذي أتى على أشياء كثيرة جميلة في حياتهم، وحرمهم من أبسط حقوقهم كآدميين ينشدون حياة كريمة كباقي البشر.

ما أصعب ساعات الانتظار وأثقلها حين تفتقد عزيزا، تشعر بدونه أنك عاجز، لا تقوى على شيء، وتداري عن أبنائك ضعفك حتى لا يروا انكسارك، وأنت من تبث فيهم الأمل، وتحرص على أن ينشؤوا أقوياء أشداء لا يعرف الحزن أو الانكسار إلى قلوبهم سبيلاً.

لا تزال كلمات جارتها لها بالأمس تتردد على مسمعها بين الفينة والأخرى فيصبح قلب أم محمد فارغا يكاد ينفطر لوعة وأسى:

- "على الله يوصل غائبكم في موعده هذه المرة ولا يمدد رحلته شهرا آخر"

ماذا ستقول لأبنائها حينها، وقد توقفت حياتهم على قدومه، ولا حديث لهم إلا عنه، من سيواسي وحشتهم، ويملأ حياتهم، ويحمل عنها تركتها التي أعيتها، وأثقلت كاهلها.

لقد عقدوا آمالا كبيرة على قدومه، ورسموا خططا عديدة لقضائها بصحبته، حتى أن ابنتها الصغرى رفضت الاحتفال بمولدها إلا بوجوده.

كلٌّ منهم يريد أن يحظى بالنصيب الأكبر منه، لم يزعجها أنهم قد نسوا نصيبها منه في غمرة اشتياقهم ولوعتهم، فسعادتها مرهونة بسعادتهم، وأجمل لحظاتها يوم تراهم يحتضنونه بحب وشغف وسرور.

في الموعد المحدد وبعد طول انتظار وصل بحفظ الله ورعايته "الراتب الشهري"، وكان في استقباله وفدٌ رفيع المستوى، تتقدمهم فاتورة الكهرباء والماء واشتراك الإنترنت والجوالات ومستلزمات المدارس والجامعة وجمعٌ غفيرٌ من الديون.

غادر معاليه كما وصل بكل حفاوة وتقدير.