قائمة الموقع

فِتية الانتفاضة: لو عاد بنا الزمان لشاركنا بكل قوتنا

2017-12-10T07:56:49+02:00
صورة أرشيفية

ثلاثون عامًا بتمامها وكمالها مرّت على اشتعال انتفاضة الحجارة، وكان فتيتها هم "الوقود المُحرك" لها في تلك الأيام ممن قاربوا من أعمارهم الآن نصف قرن من الزمن، شاهدين على انتفاضةٍ صَنعت منهم رجالًا قبل الأوان.

"مراسلة فلسطين" تضيف اثنين منهما، أحدهما صار رسام كاريكاتير، وكان قد بدأ عمره الغضّ في مقارعة المحتل بريشته، وآخر فرّقته الغربة عن الوطن لكنه استل حق العودة سيفًا لينافح به عن اللاجئين.

خطه ورسمه صنعا تميزه

الحكاية الأولى يرويها لنا شاهد العيان الأول رسام الكاريكاتير الشهير د. علاء اللقطة، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك خمسة عشر عامًا، ويقطن في مخيم الشاطئ قبيل انتقاله إلى حي النصر غرب مدينة غزة، لتشهد جدران مسجد أبو بكر الصديق بحي النصر وضواحيه على شعاراته ورسوماته وكتاباته.

يقول اللقطة لـ"فلسطين": "بدأت انتفاضة الحجارة في المخيمات حيث نشأت، فكان للانتفاضة زخمٌ خاص ونكهة مميزة، أتذكر أن أول ملامح فعاليات انتفاضة الحجارة تمثل في انتشار الملثمين في أزقة المخيم".

ويتابع: "لم يتَبعوا بصورة واضحة التنظيمات الفلسطينية المعروفة آنذاك، الملثمون كانوا من أبناء المساجد، بفرق وكتائب منتظمة وموزعة على الأزقة، كلٌّ يعرف موقعه ومهامه، ما أوحى بولادة عهدٍ جديد في الساحة، وهو ما تُرجم بعد ذلك بالبيان الأول لانطلاقة حركة المقاومة الإسلامية "ح. م. س"، وبعدها سميت حماس".

لكن ماذا عن دور الطبيب الرسام في انتفاضة الحجارة؟، يبين اللقطة أنه كان كغيره من أبناء جيل الصحوة التي كانت تشهدها البلاد، الجيل الذي تربى في المساجد منذ نعومة أظفارهم، غير أن سن الخمسة عشر عامًا صُنّفت آنذاك على أنها صغيرة على المشاركة في الفعاليات.

ويضيف: "البداية كانت انتقائية لمن يقع عليهم الاختيار للمشاركة في فعاليات الانتفاضة ممن بلغوا سنًّا أكثر نضجًا وكان التزامهم أكبر في صفوف الصحوة الإسلامية، لكن الله حباني بموهبةٍ جعلت مشاركتي لا غنى لهم عنها على حداثة سني، وهي أنني كنت خطاط ورسام المخيم، وفعاليات الانتفاضة الأولى كان يغلب عليها الطابع الإعلامي الدعائي، ما جعل لي نصيبًا أوفر في المشاركة".

يفصّل أكثر عن طبيعة مشاركته بقوله: "مهمتي كانت تصميم لوحات الانتفاضة الأولى في مساجد المخيم والمدارس والشوارع، والكتابة والرسم على جدران المخيم".

ومن الشعارات التي لا يزال يذكرها: "الأقصى عنوان المعركة"، و"هل رأيت النخل يحني جسمه ... إننا يا قدس خلقنا كالنخيل"، و"لكل بيت باب ولكل عميل حساب"، و"القدس في العيون نفنى ولا تهون".

ويشير إلى أن الدافع الأكبر إلى مشاركته في فعاليات انتفاضة الحجارة هو رؤيته صور الشهداء المُخضّبة بالدماء، والمسيرات المتتالية التي تجوب المخيم بهتافاتها وشعاراتها التي تصدح بحب فلسطين، وتحض على النضال والشهادة، والمواجهات الدامية بالحجارة، وما تيسر من أساليب المقاومة المباشرة مع أرتال المحتل ومركباته العسكرية، مضيفًا: "كل هذه المشاهد تضاف إلى نشأتي في المسجد التي علمتني أن فلسطين جزءٌ من عقيدتي".

جهاز الأحداث

مرت ثلاثون عامًا على الحدث، ومع ذلك بقيت ذاكرته قادرةً على استحضار المواقف التي ما زالت ماثلة أمام العين، يقول اللقطة: "كنا فريقًا من ثلاثة شباب ضمن ما يسمى "جهاز الأحداث"، ومهمتنا الكتابة على جدران المخيم، كانت مهمتي هي الكتابة لجمال خطي ومهارتي بالرسم، أما مهمة رفيقيّ فكانت مسح المنطقة ومراقبة الطرق".

ويمضي في القول: "كنا نخرج ملثمين فجرًا مع خروج المصلين إلى صلاة الفجر، لتأمين أنفسنا من مداهمات الاحتلال"، مبينًا أن أول رسم كاريكاتوري في حياته كان لشخصية شارون رئيس وزراء الاحتلال السابق، ورسمها على جدار المسجد باستخدام دهانات الرش.

موهبته في الرسم نالت حيزًا من تعليقات الناس وإعجابهم، ما أشعره بالفخر، ذاكرًا تعليقًا لأحدهم على لوحة ملونة للأقصى كتب فوقها: "الأقصى عنوان المعركة"، قال فيه: "الظاهر اللي رسم هاللوحات كان قاعد وناقصه أرجيلة، ومش هامه جيبات الجيش المنتشرة في كل مكان".

هذه المشاركة الفاعلة لـ"اللقطة" عرضته لضرب قوات الاحتلال له في الشارع مرتين: الأولى في مخيم الشاطئ أمام بيته، والثانية في سوق فراس وسط مدينة غزة، وهو يساعد والده في المحل الخاص بالعائلة.

ويتابع في تفاصيل حديثه عن ضرب الجنود له: "كانوا يضربونني ويشيرون إلى الجدران المليئة بالشعارات، ويركزون الضرب على أطراف يدي، في إشارة إلى اتهامي بالكتابة"، لافتًا إلى أن عصيّهم وهراواتهم كانت مليئة بالمسامير، ما أحدث جروحًا في أنامله وكفيه، ما زالت آثارها حتى اليوم بارزة، كلما مدّ يده للريشة كي يرسم رسمًا كاريكاتوريًّا مقاومًا تذكرها.

ويقول: "اعتقلت بتاريخ 27 أغسطس 1988م، وكنت أصغر معتقل في "المردوان" (أي القسم المقيم فيه داخل سجن أنصار بغزة)، كنت أبلغ من العمر 15 عامًا و10 شهور، واحتجزت ثمانية عشر يومًا، لأعاني تجربة قاسية صقلتني وأخرجتني أكثر إصرارًا وأشد بأسًا، ولم يوجعني إلا بكاء والدتي وهي تحضنني لحظة خروجي من المعتقل، فدموعها (رحمها الله) لا تفارقني حتى اللحظة".

ويشير إلى أن أسماء كثيرة لأصدقاء دراسة شاركوه في طفولته بالمخيم وذكرياته قضوا شهداء عند ربهم، ما جعل ثأرهم بداخله مع كل لوحة فنية يخطها، مؤكدًا أنه لو عاد به الزمن إلى الوراء لشارك بقوة أكبر في فعاليات انتفاضة الحجارة.

الجنود ألعوبة الصبيان

الحكاية الثانية يرويها لـ"فلسطين" مدير أكاديمية دراسات اللاجئين د. محمد عمرو، المقيم حاليًّا في دولة البحرين، صاحب الثمانية عشر ربيعًا إبان اندلاع انتفاضة الحجارة، وابن مدينة الخليل.

يقول عمرو: "إبان اندلاع انتفاضة الحجارة كنت قد بدأت الدراسة في جامعة أبو ديس، ففي صباح اشتعال الأحداث ذهبنا إلى بلدة أبو ديس فوجدناها كلها حجارة، وإطارات مشتعلة ولا دوام في الجامعة، فعاد كل طالب إلى بلدته لتتوالى بعدها بيانات الانتفاضة".

ويبين أن مشاركته كانت مع شباب المسجد والحي بالذهاب في أوقات معينة لإغلاق الشارع الرئيس للمدينة، والتصدي لمركبات جيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين، مشيرًا إلى أنهم كانوا يُعلقون الأعلام على أعمدة الكهرباء، ما يغيظ المحتل ويؤلمه، ويكتبون أبيات الشعر المقاوم والعبارات على جدران المدينة، منها حسب ذاكرته مقطع من نشيدة: "قسمًا قسمًا يا أمي لنعيد الدار".

ويلفت إلى أنه بعد مدة من الوقت بدأ المستوطنون يهاجمون أحياء المدينة، ما استدعى تشكيل نقاط حراسة في الأحياء من شبابها لحمايتها، الذين كانوا يوزعون البيانات الخاصة بالفعاليات بطرق صعبة، مؤكدًا أن مشاركته في فعاليات انتفاضة الحجارة كانت نابعة من استجابته للنداءات الوطنية، وإحساسه بالدور المطلوب منه.

ويذكر عمرو بعض المواقف التي ما زالت عالقةً في ذاكرته، ومنها أنه كان لهم جار يعمل تاجرًا للحوم، فجاء جيش الاحتلال في يوم إضراب وسط المدينة ليفتح المحال التجارية بالقوة، فرفض هذا التاجر ووقف مناديًا في زملائه التجار: "لا تفتحوا محالكم".

ولا ينسى الحديث عن أيمن الجنيدي، الذي كان من أوائل الشباب الذين اعتقلوا في الانتفاضة بمعتقل الظاهرية (كان يسميه بعضٌ معتقل أنصار 4)، وقد روى لهم الجنيدي ما حدث معه خلال السجن، ومن ذلك أن كل من يمرض في السجن قبل أن يشرح حالته للطبيب يعطيه "أكمول"، وعلى سبيل التندر أن أحد الأسرى قال له: "يا دكتور، جراباتي ممزوعة" فأعطاه "أكمول" .

ويبين أن والده كان يخشى عليه ويرفض مشاركته في الفعاليات، وفي ليلةٍ من الليالي هجم المستوطنون على الحي، فتعالت أصوات الناس بالصراخ ونادوا من المساجد، فخرج والده إلى شرفة المنزل، ونادى: "حي على الجهاد، الله أكبر"، ونزل كل الحي إلى الشارع للتصدي للمستوطنين.

ويذكر أن أحد أقربائه كان شابًّا متفلتًا غير منضبط، لم يحتمل رؤية امرأة يعتدي عليها مستوطن، فهاجمه ودافع عن المرأة، فأطلق مستوطن آخر النار عليه ليرتقي شهيدًا.

ويتحدث عن دعاء أحد علماء المسلمين حينما كان يقول: "اللهم اجعل جنود الاحتلال ألعوبة للصبيان"، مضيفًا: "فعلًا رأيناهم ألعوبة، فكنا نسكن منطقة الحاووز في الخليل، وكان الدروز أكثر الجنود إزعاجًا، فكنا نكتب على الجدران: الويل للدروز من شباب الحاووز".

ويقول: "قبل الانتفاضة كان المستوطنون الذين بالجوار منا يشترون من محل الوالد، ويجلسون ويتكلمون مع العرب كأصدقاء، ولما اشتعلت الانتفاضة تحولوا إلى هدفٍ لحجارتنا وزجاجات الشباب".

كان من أكثر الأوقات متعةً لهم فصل الكهرباء عن مستعمرة (حاجاي) القريبة منهم، ففي الليل يقذفون عمود الإنارة بالحجارة، فيحدث تماس ويحترق العمود المغذي للمستوطنة؛ فيسمعون صراخ المستوطنين وتنطفئ الكهرباء، وتأتي عربات الجيش للبحث.

ويختم عمرو حديثه لنا قبيل صعوده الطائرة مغادرًا من بلد إلى آخر: "لو عادت بي الأيام لشاركت بكل قوتي فيها، فالانتفاضة اختبرت معادن الرجال، وأنتجت شبانًا وقادة من طراز نادر".

اخبار ذات صلة