يروج في الإعلام الصهيوني أخيرًا لما يُعتقد أنه اختراق صهيوني, في ميدان التطبيع مع الدول العربية، وخاصة دول الخليج, وتزداد تصريحات قادة الاحتلال ووزرائه بشأن ما يطلق عليه التحالف مع الدول السنية في مواجهة خطر إيران, ويتناغم مع هذه الأخبار التي تعج بها الصحافة الصهيونية بعض من منتسبي التيار الليبرالي العربي, الذي يعيش في حالة تضاد ونزاع مع مجتمعه المحلي, فلا يجد له مكان للظهور إلا التساوق مع أكذوبة التعايش والسلام مع القتلة والمحتلين, ولا عجب أن تراهم يتسابقون من أجل إجراء المقابلات الصحفية مع الإعلام الصهيوني. وأيضًا تساهم بعض وسائل الإعلام العربية من صحف وفضائيات في الترويج لهذه الأفكار الشاذة والغريبة عن المكون الثقافي والديني والتاريخي للمجتمعات العربية, وتحاول جاهدة تصوير الكيان الصهيوني واحة للديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة, وهي الرواية الصهيوغربية نفسها, ولا تخجل وسائل الإعلام تلك من المساهمة في زرع المغالطات التاريخية, بأن لليهود حق العيش في فلسطين, ومعلومًا أن هؤلاء لا يكون تحركهم بعيدًا عن السلطة السياسية العربية الرسمية, التي تشكل لهم الغطاء والحماية للترويج لتلك الأفكار الهدامة لثوابت الأمة الراسخة, فالأنظمة العربية الرسمية أعلنت قبولها وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين, وأبدت استعدادها إلى الاعتراف بشرعيته, على وفق المبادرة العربية للسلام التي رفضتها الحكومات الصهيونية المتعاقبة.
يحاول مروجو التطبيع مع الكيان الصهيوني في الأوساط العربية ربط حالة الانتكاسة الشاملة في الحياة العامة في الدول العربية لملف الصراع بالعدو الصهيوني, وكأن التنمية في مجالات الصحة والتعليم والتكنولوجيا والبحث العلمي يؤخرها انشغال الدول العربية واستهلاك أموالها في دعم ومساندة الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال, وهذا منافٍ للحقيقة، ولا شك في ذلك, والقول به من هرطقات الإعلاميين والسياسيين التابعين للدوائر المخابراتية العربية, في محاولة لتبرير فساد الأنظمة وفشلها في إدارة الشأن العام, وتأخر النهضة العربية في المجالات كافة, أيضًا يأتي في إطار تمرير الهرولة الرسمية للأنظمة العربية نحو التطبيع والتسوية مع العدو الصهيوني, أحد متطلبات الرضا الأمريكي, ومحطة مهمة لمواصلة الدعم العسكري الأمريكي للأنظمة العربية, وبذلك المحافظة على كراسي الحكم وتوارثه للأبناء حتى في الأنظمة الجمهورية, فإن استمرار بقاء الأنظمة العربية القمعية عامل مهم في استقرار الكيان الصهيوني, ومواصلة احتلاله لفلسطين والسيطرة على مقدراتها وتهويد مقدساتها.
لقد شكلت الشعوب العربية حاجزًا صلبًا في مواجهة التطبيع مع الكيان الصهيوني, وأفشلته الجماهير العربية بوعيها وإدراكها حقيقة الصراع مع العدو الصهيوني, أن لا يمكن القبول به ولا يمكن الاعتراف بدولته, وأن الكيان الصهيوني هو العدو المركزي لكل عربي ومسلم, وهذه التأصيل هو الراسخ في وجدان الأمة وأجيالها, لا يمكن أن يزعزعه إعلام السلطة الحاكمة أو هرولة الحاكم إلى مصافحة القادة الصهاينة, فلم تتلق الشعوب العربية إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني إلا بالاشمئزاز والرفض، ولولا القمع والسلطة البوليسية لخرجت الجماهير ثائرة على هذا الحاكم، وأسقطته ومشروعه التطبيعي، ثأرًا لفلسطين التي تمثل قضية الأمة المركزية, وعنوانها الأول نحو الخلاص من التبعية للأجنبي, وإنهاء الاحتلال غير المباشر لعواصم العرب.
لقد استمرت اتفاقية "كامب ديفيد" بين النظام المصري والكيان الصهيوني أكثر من تسعة وثلاثين عامًا, أقيم خلالها العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، وتبادلا السفراء والزيارات الرسمية, كان ذلك كله في وادي السلطة الرسمية والشعب المصري في واد آخر, يعلن مقاطعته للكيان الصهيوني ورفضه التطبيع مع العدو الذي ارتكب المجازر بحق المصريين, في بحر البقر وسيناء والسويس وغيرها من المدن المصرية, وهناك كثير من الحوادث التي تؤكد عراقة الشعب المصري والتزامه بالموقف الثابت لجماهير الأمة, التي ترفض القبول بالكيان الصهيوني أو التطبيع معه. وكذلك اتفاقية "وادي عربة" التي أبرمها الملك الأردني الراحل منذ ثلاثة وعشرين عامًا, وما أعقب ذلك من إقامة علاقات دبلوماسية بين الأردن والكيان الصهيوني, وسط الرفض الشعبي الأردني العارم, الذي امتنع عن التعاطي مع تفاعلات الاتفاقية, ووقف الشعب الأردني حائط صد منيع أمام الاختراق الصهيوني للمجتمع الأردني, ما جعل السفير الصهيوني في عمان محاصرًا في سفارته, لا يستطيع الاندماج في الحياة السياسية الأردنية, فلا لقاءات مع سياسيين أو نقابات أو وسائل إعلام, ولا يستطيع السفير الصهيوني المشاركة في مهرجانات أو ندوات كما باقي السفراء, وتنظم الجماهير الأردنية بصورة متتابعة وقفات ومسيرات وندوات تندد بالتطبيع مع الكيان الصهيوني, وترفض التبادل التجاري أو التعاون الاقتصادي, الذي كان معولًا عليه في تنفيذ الاختراق الصهيوني للمجتمع الأردني, بتوفير فرص للعمل في المصانع الصهيونية, التي أقيمت على الأرض الأردنية, إذ تحقق في هذا الأمر الهدف السياسي بالاختراق التطبيعي, والهدف التجاري بتوفير أيدٍ عاملة رخيصة الأجر يستفيد منها الاقتصاد الصهيوني الذي يذهب مُعظم ريعه إلى موازنة الجيش الصهيوني.
لقد سقط خيار التسوية مع العدو الصهيوني, برفض الجماهير العربية التطبيع مع الكيان الصهيوني, وإن التزام الشعوب العربية بدعم ومساندة قضية فلسطين ثابت وراسخ, ولا تؤثر فيه آلات الإعلام المضللة ومنصات بيع الوهم والكذب, ليرسخ للجميع أن الشعوب العربية والإسلامية محصنة من التطبيع، رافضة له تحت أي مبررات ودواع زائفة, ولا يمكن أن يمر مشروع التطبيع مهما أطلقت الدعايات والإعلانات الترويجية عن التسامح والمحبة والسلام, ومازالت فلسطين المحتلة بجرحها النازف, وقدسها التي تُهود, وأقصاها الذي يُدنس, وهل تنسى الشعوب العربية مجازر الصهاينة الدموية في كل بلد عربي؟!، وهل تغفل جماهير الأمة العربية عن المطامع الصهيونية, بإقامة كيانهم المزعوم من الفرات إلى النيل؟!
وانطلاقًا من هذه الرؤى يأتي دور الهيئات والمؤسسات والروابط الرافضة للتطبيع المحذرة منه، وتعلي صوتها في كل المحافل, بنشاطاتها في أوساط الجماهير في العواصم العربية والإسلامية كافة, ويظهر دور الأحزاب والشخصيات العربية الوطنية, التي تلقى قبولًا وتأييدًا واسعًا في أوساط شعوبها, لتحذر من خطورة الاختراق الصهيوني للمجتمعات العربية وآثاره السلبية والمدمرة على وحدة الأمة ومشروعها الحضاري.
لا يمكن أن نغفل الأثر السلبي الذي أحدثه ولوج منظمة التحرير إلى سرداب التسوية المظلم مع الكيان الصهيوني, ما أدى إلى زعزعة انتماء بعض العرب إلى القضية الفلسطينية, فإذا صاحب الدار قد قبل باللص أن يتملك داره؛ فماذا على جاره أن يفعل بعد هذا التنازل الخطير؟!, وهذا الثغرة في جدار القضية الفلسطينية يستغلها أدعياء التطبيع وعرابو التسوية مع العدو الصهيوني , لكن الحقيقة تقول: إن الشعب الفلسطيني لا يزال يتمسك بحقوقه كاملة، ويصمد في مواجهة الهجمة التهويدية, ويقاوم بكل ما يملك من وسائل في سبيل استرجاع حقوقه كاملة, وإن القوى الحية الفلسطينية ترفض الاعتراف بكيان العدو الصهيوني, وتحرص على عدم منحه الشرعية, مع كثير من الضغوطات ومزيد من الحصار والعدوان.
ومن أجل محاصرة المشروع الصهيوني, وإفشال مخططات التطبيع مع العدو الصهيوني يجب أن نعيد للقضية الفلسطينية اعتبارها, ولن يكون ذلك إلا من أهلها وأبنائها, بتصعيد المقاومة والتمسك بفلسطين من بحرها إلى نهرها, وسحب الاعتراف الآثم بالكيان العبري، الذي تقدم منظمة التحرير في مرحلة الضعف والتراجع العربيين بعد حرب الخليج الأولى، بالتزامنا بقضيتنا وتمسكنا بحقنا بلا تفريط أو تنازل نصنع سدًّا منيعًا في مواجهة سياسات التطبيع، ومحاولات دمج الكيان الصهيوني في المنطقة, فالشعب الفلسطيني لم يستشر بهذا القرار المخزي, ولم يطلب رأيه في المصافحات مع قتلة شعبنا الفلسطيني, الذين تتلطخ أيديهم ووجوههم بدماء الأبرياء الفلسطينيين في المجازر التي مهدت لإقامة دولة الكيان الصهيوني.