انتهت حوارات الفصائل الفلسطينية التي جرت في القاهرة في يومي 21 و22 من تشرين ثانٍ الجاري، بلا شيء من الناحية الفعلية، فقد جاء البيان الختامي بصيغ فضفاضة لا تحيل على شيء محدد، وعلى نحو كاد أن يقتصر على الدعوات، بما يكون عادة قبل الاتفاق لا بعده، وهو ما يعني بالضرورة أن المجتمعين لم يتفقوا، وأن بيانهم عَكَس صعوبة، إن لم يكن استحالة، ذلك الاتفاق ضمن الظروف القائمة، وكان هذا مصدقًّا للتسريبات التي أفادت سعي وفد فتح لإفشال جولة المحادثات تلك، برفضها مناقشة العقوبات على غزّة، أو محاولتها عبر بعض الفصائل الاسمية الموالية لها، فتح ملف سلاح المقاومة، وغير ذلك.
على أيّ حال، ما قيل عن ضغوط أمريكية حالت دون قدرة وفد فتح على إنجاز الاتفاق، وربط الموقف الفتحاوي بابتزاز الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية بمسألة تجديد رخصة عمل مكتب منظمة التحرير بواشنطن؛ لا ينبغي أن يكون محلّ اعتبار.
مرّة أخرى، في مسألة من هذا النوع، لا تحتاج الولايات المتحدة لهذه الأساليب للضغط على فتح والسلطة الفلسطينية، فضلاً عن ذلك، فترويج هذا الادعاء انسياق ذاهل مع دعاية فتح، وكأنّه يعلّق الأزمة الداخلية على عامل خارجيّ، ويخلي فتح والسلطة من مسؤولياتها، وهذا الادعاء لو صحّ فإنّه يدين فتح، إذ يجرّدها من غطاء القرار المستقل، ومن صبغة التحرر الوطني، لكنّه من جهة أولى غير صحيح، ومن جهّة أخرى لا ينبغي ترداده وكأنّه عذر معتبر.
من البداية، بدا التحول المصري تجاه حماس وغزّة غريبًا، وقد بدأ باحتضان لقاء جمع بين يحيى السنوار ومحمد دحلان، ثم لم يسفر عن شيء في واقع حصار غزّة، ولاسيما من ناحية الطرف المصري، ليتحول إلى احتضان محادثات بين فتح وحماس، تمظهرت بقدر من الجدّية، وجاءت في ظرف يقال فيه إن ثمّة رغبة أمريكية في إنجاز المصالحة تمهيدًا لتحقيق رؤية ترامب بخصوص القضية الفلسطينية.
ظلت دوافع المصريين غامضة، وكذا بالضرورة القوى الكامنة خلفهم، أي حلفاءهم الإقليميين، والقوى التي لا يمكن لمصر أن تلعب في القضية الفلسطينية خارج الهوامش التي يتيحونها لها، نعني تحديدًا أمريكا و"إسرائيل".
لا نقصد بذلك أن هذه الأطراف المتآمرة على قضيتنا، والمتواطئة على حصار غزة، وعلى كسر مقاومتها، متطابقة، ولا نقصد بأنّها تملك رؤية واضحة، أو خطة ناجزة، بخصوص الموضوع الفلسطيني عمومًا، أو غزّة وحماس خصوصًا، ولكن المقصود أنّ مصر على الأقل لم تخط هذه الخطوات بإرادة مستقلة، وإنما ضمن ترتيب مع بعض تلك القوى في الحدّ الأعلى، أو ضمن هامش أتيح لها مؤخرًا في الحدّ الأدنى.
وبالرّغم من استمرار الغموض حيال النوايا المصرية والقوى المحرّكة للنظام المصري، فإنّ ما كان واضحًا هو موقف فتح، التي أبدت تعبيرات مبكّرة، لا تحتمل الكثير من التأويل، وتفيد بأنّها متوجّسة من المصالحة، وتستشعر ترتيبًا معينًا يستهدف قيادتها منها.
كان أوضح تلك التعبيرات قول الرئيس محمود عباس "أنا مش مستعجل"، وهو الأمر الذي لم يزل قائمًا حتى الساعة، إذ لم تُرفع العقوبات عن غزّة، بالرغم من أن ثمن العقوبات الذي كان مطلوبًا هو حلّ اللجنة الإدارية، لا المصالحة الشاملة، ولا تمكين الحكومة، ولا سلاح المقاومة، ولا الملفّ الأمني!
يمكن القول إنّ أداء حماس التفاوضي، قد أغرى قيادة فتح بممارسة هذا التكتيك الفعّال من الابتزاز، وسهّل لها المناورة داخل مباحثات المصالحة التي كانت متحفظة إزاءها في الأساس، فقد تنازلت حماس مرّة واحدة عن كلّ مطالبها، بلا أيّ ضمانات، حتّى أن بيان تفاهمات المصالحة الأول الذي وُقِّع في تشرين أول/ أكتوبر الماضي لم يكد يتضمن شيئًا سوى الاستجابة لمطالب فتح بتمكين الحكومة وتسليم المعابر، والإحالة على اجتماعات قادمة، وكذلك إحالة ملفّ موظفي غزّة للجنة قانونية.
قد يعني هذا أنّ حماس فضّلت الحفاظ على الخيط المصري الممدود لها، ورفع المسؤولية عن نفسها أمام الجماهير، لكنّه قد يبدو للخصم -في المقابل- ضعفًا وشعورًا عارمًا بالأزمة والاختناق، وبالتالي إمكانية الابتزاز، وتسهيل عملية المناورة على الخصم، ومنح خصوم فعليين في حقيقة أمرهم أدوات أكثر لاحتواء الحركة وضبط فاعليتها، والمقصود هنا تحديدًا هو النظام المصري.
أيًّا كانت دوافع النظام المصري، فقد ذهبت فتح مرغمة، أولاً لأنّ حلّ اللجنة الإدارية سحب منها ذريعتها المعلنة، وإن أتاح لها القدرة على المناورة من داخل المباحثات نفسها، وثانيًا، لأنّها - أي السلطة - لا ترغب بالصدام مع المصريين، وثالثًا لشعورها بوجود إرادة إقليمية ما أو دولية، أو على الأقل غطاء من تلك القوى منح المصريين هامشًا للتصرف في موضوع المصالحة، ولكنّها تمكنت من المناورة، لأنّها جزء من المنظومة، وتعرف حدود اللعب وممكناته داخل تلك المنظومة.
فسواء كانت مساعي المصريين في موضوع المصالحة، متعلقة بأسباب مصرية صرفة، أو كانت جزءًا من خطّة ترامب للقضية الفلسطينية ومشاريع التطبيع، أو بهدف إحلال قيادة بديلة، فإنّ القوى المناوئة لشعبنا وقضيتنا، تعلم أنّه لا يمكن –في هذه المرحلة -الاستغناء عن السلطة، ولا الإحلال الخشن لقيادة بديلة للاحتمالات التي قد تنفتح عليها عملية غير محسوبة من هذا النوع، وطالما أن السلطة تقوم بدورها المنوط بها وفق إرادة المنظومة التي أوجدتها، فإنّه إذن يمكن لقيادة فتح، التي هي قيادة السلطة، المناورة، والخروج بما تريد من هذه المباحثات.
كان ثمّة تصوّر خاطئ لدى أكثر المراقبين، بأنّ الأزمة الفلسطينية العامّة ستفرض على الجميع المصالحة، على أساس أن مشروع التسوية قد فشل فعليًّا إلى غير إمكانية لاستئنافه من جديد، وقد انتفى ما يمكن أن تَعِدَ به فتح، وأمّا أزمة حماس الناشئة عن حصار قطاع غزّة، فهي معروفة، وهذا التصوّر يفترض افتراضات خاطئة غير موجودة في بعض أطراف المسألة، إذ هل بالفعل تشعر فتح أنّها مأزومة من جهة افتقارها للمشروع الوطني، أم أنّها تكيّفت مع الواقع القائم، وجعلت من محض وجود السلطة –بلا أي أفق وطني- فرصة للاستفادة والمناورة؟!
وإذن فإن كانت هناك ضغوط على السلطة، للذهاب إلى حوارات القاهرة، فإنّها –أي السلطة والتي هي فتح- قادرة على استثمار واقع السلطة وتحوّلها إلى غاية في ذاتها، للمناورة والتخلّص من تلك الضغوط، لاسيما وهي تقوم بوظيفتها، ومحض وجودها بلا أفق أيضًا يرضي الاحتلال، ومن ثمّ ومهما كانت علاقات الأطراف الأخرى بالاحتلال أو بأمريكا، فالسلطة جزء من المنظومة، وتعرف مداخل اللعب والتدافع والمناورة بين فرقاء المنظومة الواحدة.
لكن الأزمة الحقيقية، بالنسبة لقيادة فتح، فهي شعورها بنوايا الإقصاء والاستبدال التي تقف خلف مساعي المصالحة، لا انسداد الأفق السياسي، وهي وإن كانت غير راغبة في التجاوب مع ما يُحكى عنه من خطّة ترامب، فإنّها تناور في المنطقة الوسط، أي تستخدم السلطة لحماية نفسها من الاستبدال، ولممانعة التجاوب مع خطّة ترامب، كما تشرح الفقرة السابقة من هذه المقالة.
وعلى الأرجح فإنّ السلطة لا ترغب في غزّة، ولماذا تتحمل أعباءها الإدارية والمالية، وهي –أي السلطة التي هي مرّة أخرى فتح- لا تملك فيها الاستفراد الكامل بالأمن والسلاح، بمعنى لماذا تقبل على نفسها شراكة من هذا النوع، وتتحمّل هي كامل العبء الإداري والمالي بالإضافة لتبعات هذا الواقع أمام القوى المسيطرة والمهيمنة التي تقود المنظومة التي تقع فيها السلطة؟! فإذا أضيف إلى ذلك إدراك قيادة فتح لنوايا الإقصاء والاستبدال، فإنّها بالتأكيد لن تذهب أكثر مما ذهبت إليه في هذه المصالحة.
تظلّ نوايا النظام لمصري المجهولة. أيًّا ما كانت، فإنّهم كرّسوا دورهم ومكانتهم، وهذ بدهي بحكم الجغرافيا، وهذا يعني في النتيجة تجريد بعض خصوم النظام المصري – قطر مثلاً- من نفوذهم في الساحة الفلسطينية، ولا سيما ساحة غزّة، وإضعاف نفوذ آخرين كتركيا، وكذا الحدّ من قدرة إيران على الاستفادة من الملفّ الفلسطيني، فسياسة الاحتواء المزدوج المستخدمة من النظام المصري ضدّ حماس الآن تبقي الأخيرة مشدودة إليه، وغير قادرة على توسيع مجال الحركة بالاستناد إلى قوى أخرى في المنطقة كإيران.
بالإضافة لذلك، يظلّ أمام المصريين الآن -ومن يقف خلفهم- الفرصة لإدخال مخلّص جديد إلى قطاع غزّة، إن رغبوا في هذه اللعبة، أو إن كانت فعلاً هي الخطّة (ب) المُعدّة على الطاولة.