لم يكن «أبو عبيدة» بالنسبة لأطفال غزة مجرد ناطق عسكري ببدلة مرقطة وكوفية حمراء، بل كان «بطل الحكايا» الذي ينتظرونه خلف شاشات التلفاز؛ ذلك الصوت الذي يمنحهم السكينة وسط ضجيج الانفجارات، وأزيز الرصاص، وهدير الطائرات.
ومع إعلان «كتائب القسام» نبأ استشهاده، خيّم حزن من نوع خاص على خيام النازحين وأزقة المدن المدمرة، حزن مكسوّ بالفخر والاعتزاز، فكما يقول الصغار: «كان يخبرنا دومًا أننا سننتصر».
وبين جدران خيمة قماشية في مدينة غزة، يتقمص الطفل يوسف المقادمة (12 عامًا) شخصية «الملثّم»، بوقفته الرزينة ونظراته الواثقة، باحثًا في تفاصيل يومه الشاق عن بطولة تشبه تلك التي كان يراها في صوته وكلماته.
يقول يوسف لصحيفة فلسطين، وعيناه تلمعان: «كنا ننتظر ظهوره لنطمئن أننا بخير. صوته كان يعلو فوق صوت الانفجارات. اليوم نحزن لرحيله، لكنه علّمنا أن صاحب الحق لا يهاب أحدًا ولا يخاف».
أما الطفلة مسك أبو عاصي (10 سنوات)، التي فقدت والدها ومنزلها في شمال غزة خلال حرب الإبادة المستمرة، فتقول ببراءة لافتة: «أمي قالت لي إن الأبطال لا يموتون، بل يذهبون إلى الجنة. هو الآن طير في الجنة مع أبي، لكننا سنحفظ كلماته: (إنه لجهاد… نصر أو استشهاد)، وسنرددها دائمًا».
لم تكن كلمات «الملثّم» مجرد بيانات أو خطابات عسكرية، بل تحولت إلى «دروس يومية» في الصمود. وغدت «عصبة الرأس» رمزًا يتسابق الصغار على تقليده، فخلف كل زاوية مدمّرة، تجد طفلًا يتلثم بقطعة قماش بسيطة، يقف بشموخ أمام أقرانه، مرددًا بلهجة واثقة العبارات ذاتها التي حفظها عن ظهر قلب.
هذا التماهي مع الشخصية يعكس بوضوح كيف استطاعت هذه الأيقونة صياغة وعي جيل لا يرى في الانكسار خيارًا، بل يرى في التضحية جسرًا نحو «النصر والتحرير».
ولم تخلُ تعليقات الأطفال من لغة التحدي، إذ قال الفتى براء حجازي (12 عامًا): «إذا استُشهد أبو عبيدة، فكل واحد منا هو مشروع (أبو عبيدة) جديد. الاحتلال يظن أن الاغتيال ينهي الحكاية، لكنه لا يدرك أننا نكبر هنا على حب الأرض والمقاومة».
ويرى مختصون أن شخصية الناطق باسم «القسام» تحولت إلى «أيقونة» تغلغلت في وعي الجيل الناشئ، ليس في غزة فحسب، بل في العالم أجمع. فإلى جانب تقليد نبرة صوته، استمد الأطفال من خطاباته «مناعة نفسية» لمواجهة أهوال الحرب.
وتوضح المختصة في الدعم النفسي، نهى الشندي، أن ارتباط الأطفال بـ «أبو عبيدة» تجاوز الإعجاب بالقائد العسكري، ليشكّل «صمام أمان» نفسيًا.
وتضيف لـ"فلسطين": «في اللحظات التي كان يشتد فيها القصف، كان ظهوره يعني لهم أن هناك من يحميهم، ومن يترجم وجعهم إلى قوة. اليوم، ورغم مرارة الفقد، يبدو أن الأطفال استوعبوا الرسالة الأهم: الفكرة لا تموت بموت صاحبها».
وتتابع الشندي: «لقد نجح الملثّم في غرس عقيدة تتجاوز الأشخاص، ما جعل استشهاده دافعًا إضافيًا للتمسك بحلم التحرير».
رحل «الملثّم» جسدًا، لكنه ترك خلفه جيلًا كاملًا يراه رمزًا للعزة وناطقًا باسم أحلامه في العودة والحرية. ففي غزة اليوم، الصمت لا يعني الانكسار، بل هو لحظة التقاط أنفاس لجيل سيكبر وهو يحمل «الكوفية» ذاتها.
بين رماد المنازل ونبض المخيمات، يبقى صدى عبارته الشهيرة: «وإنه لجهاد… نصر أو استشهاد» يتردد في حناجر الصغار قبل الكبار. رحل «صوت غزة»، وترك خلفه «جيشًا من الوعي» لا تحدّه حدود؛ جيلًا يدرك أن البطولة ليست في السلاح وحده، بل في اليقين الذي لا يتزعزع، والكلمة التي تزلزل العروش.