في وقتٍ لم تندمل جراح قطاع غزة، بعد أكثر من عامين على حرب الإبادة، عادت التصريحات الإسرائيلية بشأن إعادة الاستيطان إلى الواجهة، حاملةً دلالات سياسية وأمنية بالغة الخطورة، لا تقتصر على مستقبل القطاع فحسب، بل تمتد لتضرب في عمق اتفاق وقف إطلاق النار، وتكشف مجدداً طبيعة العقلية الفاشية المتطرفة التي تحكم صنع القرار في إسرائيل.
أحدث هذه التصريحات صدرت عن وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الذي أعلن صراحة نية (إسرائيل) إعادة الاستيطان في شمال قطاع غزة، وإقامة مستوطنات جديدة تحلّ محل تلك التي أُخليت عام 2005، مؤكداً أن إسرائيل «لن تنسحب من قطاع غزة بالكامل أبداً». هذه التصريحات، التي أُطلقت خلال اجتماع للإعلان عن بناء 1200 وحدة استيطانية في الضفة الغربية، وبحضور رموز اليمين المتطرف وعلى رأسهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، لم تكن زلّة لسان أو موقفاً فردياً، بل تعبيراً واضحاً عن توجه سياسي متكامل داخل الحكومة الإسرائيلية.
ولا تكمن خطورة تصريحات كاتس في مضمونها الاستيطاني فحسب، بل في توقيتها وسياقها السياسي، إذ تأتي في وقتٍ تُبذل فيه جهود إقليمية ودولية لبدء المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، برعاية أميركية وبمشاركة مصر وقطر وتركيا. وبذلك، تمثل هذه التصريحات عملياً نسفاً مسبقاً لأي مسار سياسي يمكن أن يقود إلى تهدئة مستدامة، ورسالة واضحة بأن إسرائيل لا تنظر إلى الاتفاق إلا بوصفه أداة تكتيكية مرحلية، لا التزاماً سياسياً أو قانونياً.
في هذا السياق، يرى الخبير في الشأن الإسرائيلي نهاد أبو غوش أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بشأن إعادة الاستيطان في غزة تنمّ عن «عقلية صهيونية متطرفة» لا تزال تتحكم في التفكير الإسرائيلي. ويوضح أن التدقيق في بنود اتفاق وقف إطلاق النار يكشف عن وجود نقاط ضبابية عديدة تتيح لإسرائيل التلاعب بالاتفاق وتغييره كيفما تشاء، طالما تحظى بدعم أميركي غير مسبوق. ويؤكد أبو غوش، في حديث لصحيفة فلسطين، أن إسرائيل تسعى من خلال هذه التصريحات إلى ترسيخ فكرة أن الاتفاق يمنحها حرية العمل المطلق، وأن بوسعها أن تفعل ما تشاء ومتى تشاء، دون الاكتراث بالالتزامات المعلنة.
ويضيف أن الحكومة اليمينية المتطرفة تحاول استثمار هذه المساحة الرمادية في الاتفاق لتحقيق حلم التيار الصهيوني المتشدد بإقامة مستوطنات دائمة في قطاع غزة، مشيراً إلى أن إسرائيل لم تكتفِ بتدمير البنية التحتية والعمرانية للقطاع، بل عملت بشكل ممنهج على تغيير معالمه الطبوغرافية والديموغرافية، في محاولة لإعادة تشكيل الواقع بما يخدم مشروعها الاستيطاني على المدى البعيد.
من جانبه، يربط الباحث في الشأن الإسرائيلي محمد القيق بين التصريحات الإسرائيلية الأخيرة والممارسات الميدانية على الأرض، معتبراً أن ما يجري في غزة والضفة الغربية يعكس «المخطط الإسرائيلي الحقيقي»، الذي يتعامل مع وقف إطلاق النار وكأنه غير موجود. ويتساءل القيق: ماذا يعني استمرار احتلال نحو 60% من مساحة قطاع غزة، ومواصلة تدمير المنازل، إن لم يكن دليلاً على أن إسرائيل تمضي في مشروعها الاحتلالي والاستيطاني دون اكتراث بأي اتفاقات؟
ويؤكد القيق أن خطة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة لا تزال قائمة، وتُطرح باعتبارها خطوة تمهيدية لتنفيذ الأحلام الصهيونية بإعادة الاستيطان داخل القطاع، مشدداً على أن التصريحات الإسرائيلية الأخيرة هي تصريحات استفزازية صادرة عن حكومة صهيونية فاشية، اعتادت توقيع الاتفاقات على الورق ثم التنصل منها في الميدان. ويرى، في حديث لصحيفة فلسطين، أن إسرائيل تدرك تماماً أن تنفيذ مثل هذه التصريحات يشكّل خرقاً واضحاً لاتفاق وقف إطلاق النار، لكنها لا تبالي بذلك، وتمضي قدماً في مسارها لتحقيق أهدافها.
ويعكس التناقض الصارخ بين تصريحات كاتس ومواقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي زعم مراراً عدم وجود خطط لإعادة الاستيطان في غزة، حالة الازدواجية والتضليل التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية. فبينما تُستخدم لغة التهدئة في المحافل الدولية، تُطلق في الداخل الإسرائيلي تصريحات تُرضي القاعدة اليمينية المتطرفة، وتؤسس لسياسات أكثر عدوانية على الأرض.
ويحذر محللون من أن هذه التصريحات لا تهدد اتفاق وقف إطلاق النار فحسب، بل تقوّض أي أفق سياسي مستقبلي، إذ تعيد الصراع إلى مربعه الأول، وتؤكد أن إسرائيل لا تزال تنظر إلى غزة باعتبارها أرضاً قابلة لإعادة الاحتلال والاستيطان، لا ككيان فلسطيني له حقوق سياسية وإنسانية واضحة.
وفي المحصلة، تكشف تصريحات كاتس، وما يرافقها من مواقف لمسؤولين إسرائيليين آخرين، عن جوهر المشروع الإسرائيلي القائم على القوة وفرض الأمر الواقع، بعيداً عن أي التزام بالقانون الدولي أو الاتفاقات الموقعة. كما تؤكد، وفق ما يشدد عليه القيق وأبو غوش، أن اتفاق وقف إطلاق النار يظل هشّاً ومهدداً في أي لحظة، ما دامت إسرائيل تتعامل معه كمرحلة مؤقتة تخدم مشروعها الاستيطاني الأكبر، لا كخطوة نحو إنهاء العدوان وتحقيق الاستقرار.
وبينما يترقب الفلسطينيون في غزة بداية مرحلة جديدة تخفف من معاناتهم وتفتح الباب أمام إعادة الإعمار، تأتي هذه التصريحات لتعيد إنتاج الخوف والقلق، وتؤكد أن شبح الاستيطان والتهجير لا يزال حاضراً، وأن المعركة لم تعد فقط على وقف إطلاق النار، بل على مستقبل الوجود الفلسطيني نفسه في قطاع غزة.