لم يعد فصل الشتاء في قطاع غزة مجرد موسم للأمطار والبرد، بل تحوّل إلى تهديد مباشر للحياة، في ظل الانهيار شبه الكامل لمنظومة الصرف الصحي نتيجة التدمير الواسع الذي طال البنية التحتية خلال العدوان الإسرائيلي.
ومع كل منخفض جوي، تتفاقم الأزمة، حيث تختلط مياه الأمطار بمياه الصرف الصحي، لتغمر محيط البيوت المدمّرة وخيام النزوح، وتحول الأحياء السكنية إلى بؤر تلوث مفتوحة.
في حي تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة، حيث الدمار واسع والشوارع محفرة، تعيش أم محمود سلمان (42 عامًا)، نازحة مع أبنائها داخل خيمة نصبت قرب منزلها المدمّر.
تصف أم محمود المشهد بعد كل منخفض جوي قائلة: "مع أول ليلة مطر، تبدأ المجاري بالطفح، المياه السوداء تحيط بالخيمة من كل الجهات، والرائحة لا تُحتمل. نحاول رفع الفرشات والأغطية، لكن الأرض تبقى ملوثة."
وتوضح لصحيفة "فلسطين" أن طفح الصرف الصحي في المنطقة لم يعد مرتبطًا بالأمطار فقط، بل أصبح دائمًا بسبب تدمير خطوط الصرف ومحطة الضخ القريبة، ما جعل المياه الراكدة تحاصر العائلات لأيام.
وتضيف: "ابنتي الصغيرة أصيبت بطفح جلدي أكثر من مرة، ولا نملك ماءً نظيفًا كافيًا، ولا مكانًا ننتقل إليه. في فصل الشتاء أصبحنا نخاف من المرض أكثر من البرد."
تدمير البنية التحتية
وبحسب بيانات رسمية صادرة عن جهات مختصة في قطاع المياه، فإن أكثر من 80% من مرافق الصرف الصحي وشبكات المياه في قطاع غزة تعرضت لأضرار جسيمة أو خرجت عن الخدمة، بما يشمل محطات المعالجة وخطوط التصريف الرئيسية.
هذا التدمير، إلى جانب الانقطاع المستمر للكهرباء ومنع إدخال الوقود والمعدات، أدى إلى توقف المضخات، وتحول الشوارع والأحياء السكنية إلى مجاري مفتوحة، خاصة في المناطق المنخفضة.
في حي الصبرة وسط مدينة غزة، لا يختلف المشهد كثيرًا. يوسف العايدي (55 عامًا)، نازح يقيم قرب شارع رئيسي تضرر بشدة، يشير إلى برك كبيرة من مياه الصرف تحيط بخيمته.
يقول لـ"فلسطين": "المجاري تطفح من تحت الأرض، والمطر يزيدها ارتفاعًا، الشارع أصبح مستنقعًا، لا نستطيع الخروج أو إدخال شيء للخيمة، المياه تصل أحيانًا إلى داخلها."
ويضيف: "الوضع يزداد سوءًا ليلًا، حيث تنعدم الرؤية، ويخشى السكان من سقوط الأطفال في الحفر المليئة بالمياه الملوثة، وقد أصيب عدد من الأطفال بالتهابات معوية متكررة."
ويكمل العايدي: "نعيش وسط المجاري، ولا أحد يستطيع إصلاح شيء، ونخشى أن يتحول المرض إلى وباء."
وفي مركز صحي ميداني جنوب مدينة غزة، يؤكد محمود الشرافي (29 عامًا)، ممرض متطوع، أن تأثير طفح الصرف الصحي يظهر بشكل واضح بعد كل موجة أمطار.
ويقول الشرافي في حديثه لفلسطين: "نسجل ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الإسهال الحاد، والالتهابات الجلدية، وخصوصًا بين الأطفال وكبار السن. المياه الملوثة تحاصر الناس من كل الجهات، ولا توجد بيئة صحية تحميهم."
ويحذّر من أن استمرار اختلاط مياه الصرف بمصادر المياه المستخدمة يزيد من احتمالات انتشار أمراض وبائية، في ظل نقص الأدوية وأدوات التعقيم.
تحذيرات رسمية ودولية
وحذرت جهات حكومية فلسطينية من أن استمرار انهيار خدمات الصرف الصحي يشكّل قنبلة صحية موقوتة، خاصة خلال فصل الشتاء، مؤكدة أن منع إدخال مواد الصيانة والمعدات اللازمة لإصلاح الشبكات يفاقم الأزمة ويحول دون تنفيذ حلول طارئة.
من جانبها، اعتبرت منظمات دولية وأممية أن فيضانات الصرف الصحي في غزة تمثل كارثة بيئية وصحية يمكن تفاديها، مشيرة إلى أن مئات آلاف النازحين يعيشون في بيئة ملوثة تهدد حياتهم، مطالبة بتدخل عاجل لإعادة تأهيل الشبكات والسماح بإدخال المعدات والوقود.
في غزة، لم يعد الشتاء فصلًا عابرًا، بل موسمًا للخطر المتكرر. ومع كل منخفض جوي، يتأكد النازحون أن الصرف الصحي بات عدوًا يوميًا يلاحقهم داخل خيامهم، ويهدد صحتهم، ويضاعف معاناتهم في ظل حرب دمّرت البنية التحتية وحرمتهم من أبسط مقومات الحياة.
وبينما تستمر التحذيرات، يبقى سكان قطاع غزة والنازحين في الخيام والبيوت المدمرة في انتظار حلول حقيقية، قبل أن يتحول الشتاء القادم إلى كارثة أكبر.