باءت محاولة المواطن أحمد اسليم لشراء ربطتي خبز بالفشل، ليس بسبب نفاد الخبز، بل نتيجة طلب البائع الدفع بالفكة، التي لم تكن بحوزته. مشهد يومي بات يتكرر في أسواق قطاع غزة، إذ تحولت العملات المعدنية من أداة تسهيل للتبادل التجاري إلى أزمة خانقة تُعقّد أبسط عمليات الشراء.
ويقول اسليم لصحيفة "فلسطين"، إن أزمة الفكة والعملات المهترئة ألقت بظلالها الثقيلة على حياة الناس اليومية، موضحًا أنه في كثير من الأحيان يعجز عن شراء حاجيات بسيطة بقيمة 10 أو 20 شيكل، لرفض الباعة فك العملة، إلا في حال شراء سلع بقيمة 50 شيكلا أو أكثر.
ويشير إلى أن بعض الباعة يعمدون إلى جمع العملات المعدنية من السوق وبيعها لاحقًا بأسعار أعلى، ما ساهم في خلق سوق موازية للفكة وألقى بعبء إضافي على المواطنين.
ولا تختلف معاناة السيدة أم أحمد الشافعي كثيرًا عن غيرها من المواطنين، إذ اضطرت مرارًا للتنقل بين البسطات بحثًا عن نقود معدنية تمكنها من شراء احتياجات منزلها الأساسية. وتقول الشافعي لـ"فلسطين"، إنها كثيرًا ما تعود إلى منزلها دون أن تشتري شيئًا، إما لعدم توفر الفكة، أو لرفض التعامل مع الأوراق التي بحوزتها بحجة أنه مهترئة
وتشير إلى أن تضطر في كثير من الأحيان للشراء بكامل قيمة الورقة النقدية من الفئات الكبير، مؤكدة أن الحياة باتت مرهونة بتوفر الفكة، سواء في التسوق، أو المواصلات، أو شحن الهاتف، أو حتى أبسط المعاملات اليومية.
خسائر وشلل
من جهته، البائع إياد العطار يصف واقع السوق في قطاع غزة بـ"الصعب جدًا"، مؤكدًا أن أزمة غياب الفكة لم تعد تقتصر على المواطنين، بل باتت تضرب الباعة أنفسهم وتقيد قدرتهم على العمل والاستمرار.
ويشير العطار لـ"فلسطين"، إلى أن غالبية الزبائن يدفعون بورقات نقدية من فئتي 50 و100 شيكل، وغالبًا ما تكون الأوراق ممزقة أو مثقوبة، في ظل شح شديد في العملات المعدنية، ما يضع البائع في موقف حرج أمام الزبائن. ويضيف: "الناس تعتقد أحيانًا أننا نخفي الفكة أو نخبئها، لكن الحقيقة أننا نعاني مثلهم تمامًا".
ويوضح أن الأزمة انعكست بشكل مباشر على حركة البيع، حيث تراجعت بشكل ملحوظ، مضيفًا أن قلة الإقبال اضطرته في بعض الأيام إلى البقاء في المنزل بدل التوجه إلى السوق، خشية الخسارة وعدم القدرة على التعامل مع الزبائن.
البائع خالد حسنين يؤكد أن أزمة غياب الفكة باتت حاضرة في كل عملية بيع تقريبًا، معتبرًا أن المعاناة لم تعد مرتبطة بسلعة، بل أصبحت جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية في الأسواق، في ظل شح العملات المعدنية ورفض تداول بعض الفئات النقدية.
ويشرح حسنين لـ"فلسطين"، أن المواطن قد يأتي وبحوزته مبلغ 20 شيكلًا، فتُرفض بحجة أنها مثقوبة أو تالفة، فيما يُرفض مبلغ 50 أو100 شيكل بدعوى عدم توفر الفكة، ما يضطره إلى شراء سلع لا يحتاجها بقيمة أكبر. ويؤكد أن هذه الأزمة تسببت له بخسارة ما لا يقل عن 30 زبونًا يوميًا، إذا أن الجميع بات جزءًا من هذه المعاناة، سواء بائعًا أو مشتريًا.
أزمة مفتعلة وسوق سوداء
وفي السياق، يؤكد الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر أن أزمة الفكة في قطاع غزة ليست أزمة اقتصادية بحتة، بل أزمة "مفتعلة ذات أبعاد سياسية"، مشيرًا إلى أنه لا يوجد شح حقيقي في العملة بحد ذاته، وإنما قيود مفروضة تتحكم بتدفق السيولة بجميع فئاتها.
ويوضح أبو قمر لـ"فلسطين"، أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد منع إدخال السيولة النقدية، إلى جانب تعطيل القطاع المصرفي والمالي، والترويج للسوق السوداء حيث بات هذا القطاع في قبضة قلة من التجار، وصفهم بـ"تجار الحروب"، الذين يتحكمون بتداول النقد ويرفضون استقبال فئات مختلفة، مثل الطبعات القديمة والعملات التالفة والمهترئة، بما في ذلك فئات العشرة والعشرين شيكلًا.
ويرى أن هذه الممارسات تندرج ضمن سياسة منهجية تهدف إلى التنغيص على المواطنين، وزيادة الأعباء الاقتصادية عليهم، مشيرًا إلى أن الأزمة تسببت بخسائر مباشرة للمواطنين، تجلت في بيع مبالغ من الفكة بقيمة 70 أو 80 شيكلًا مقابل 100 شيكل ورقية، إلى جانب معاناة واسعة في تصريف العملات التالفة.
ولفت إلى أن هذه الظواهر تأتي في سياق ما وصفه بـ"حرب الإبادة الاقتصادية" التي تشنها (إسرائيل) على قطاع غزة منذ أكثر من عامين، ضمن سياسة تهدف إلى إنهاك السكان ودفعهم نحو التهجير، التي تنادي بها حكومة اليمين المتطرفة.
ويشير إلى أن تخزين الفكة وبيعها بأسعار أعلى يمثل مظهرًا من مظاهر "السوق السوداء"، ويعد مؤشرًا على تدهور الوضع الاقتصادي، لا سيما في القطاع المصرفي، موضحًا أن تحول العملة نفسها إلى سلعة تُباع وتُشترى يعكس مستوى غير مسبوق من الانحدار الاقتصادي في أسواق قطاع غزة.
وفيما يتعلق بالدفع الإلكتروني، يوضح أبو قمر أنه رغم التوسع الملحوظ في استخدامه، إلا أنه لا يمكن أن يكون بديلًا عن النقد الورقي في قطاع غزة، نظرًا لطبيعة الواقع الاجتماعي والاقتصادي، مشيرًا إلى أن الاعتماد على الدفع الإلكتروني كان محدودًا للغاية قبل حرب الإبادة، بينما يشهد اليوم توسعًا ضمن ما يُعرف بـ"الشمول المالي".
ويؤكد أن شريحة واسعة من السكان لا تمتلك الثقافة المالية أو الأدوات اللازمة للتعامل مع الدفع الإلكتروني، فضلًا عن وجود قطاعات كاملة لا تزال تعتمد على النقد، وتشترط الفكة في تعاملاتها اليومية، ما يزيد من تعقيد الأزمة ويزيد حدتها.