عاد الطفل قبل أربعة أيام من رحلة نزوح قاسية إلى جنوب القطاع، هربًا من تداعيات المنخفضات الجوية التي أغرقت الخيام هناك، برفقة عمته الحاجة شيرين مي “أبو شدق”، التي تكفّلت برعاية أبناء شقيقها الصغار بعد استشهاد والدتهم في بدايات الحرب، وسفر والدهم قبل أسبوع من اندلاعها إلى مصر لعلاج والدته.
احتمت عمة الطفل عطا مأمون مي “أبو شدق” (6 أعوام) بما تبقى من منزل مهجور وآيل للسقوط، مدمّر قرب مسجد الخالدي في منطقة السودانية شمال غرب مدينة غزة. وبعد أن أطعمت الأطفال، وعند الساعة الثانية من ظهر يوم السبت الموافق 27 ديسمبر/كانون الأول 2025، أفزعها صراخ ابن شقيقتها الذي كان يلهو مع عطا، وأبلغها بسقوطه في بئر مليء بالمياه بعمق ستة أمتار.
هرعت العمة إلى مكان الحفرة، يرافقها شبان العائلة والجيران، ليقفوا عاجزين أمام مشهد مليء بالحفر العميقة. واستغاثوا بطواقم الدفاع المدني التي تعاملت مع الحادثة بإمكانيات بدائية. ومع حلول الظلام، واصل الفريق العمل لساعات طويلة تحت الأضواء الكاشفة وبين العتمة، حتى تمكن أحد أفراد الطواقم من الغوص داخل الحفرة، مخاطِرًا بحياته، ليُخرج الطفل جثة هامدة.
الوداع الأخير
في مشرحة “الموتى والشهداء”، ألقت عمته نظرة الوداع الأخيرة على جثمانه. مسحت بيديها على شعره وجسده الذي بدا كلوح خشبي من شدة المكوث في المياه، وطبعت قبلة أخيرة على جبينه قبل مواراته الثرى. من حولها، أخفت الخالات ونساء العائلة دموعهن خلف الأكف، فيما اكتوت قلوب الرجال كما النساء، واكتوى كل قلب لامسته قصة الطفل واستشعر مأساة غزة.
تهمس العمة في أذن الطفل الممدّد ساكنًا بلا حركة، وهي تستحضر صورته وضحكته وحلمه الصغير، بنبرة عتاب وعينين دامعتين: “راح بشربة مي مني. ربيته من حدقات عيني. كنت أجري يمين ويسار عشان ما يحتاجوش حاجة”، مضيفة أنها اضطرت في مرات عديدة للذهاب إلى “مصائد الموت” لجلب الطحين وإطعام الأطفال.
تحاول التماسك وهي تروي تفاصيل الحادثة لصحيفة “فلسطين”، بينما يعتصر الألم قلبها وكأنها تودّع فلذة كبدها: “أطعمتهم وألبستهم، وبعد ساعتين من خروجهم للعب عاد ابن أختي يصرخ: عطا غرق. ركضت إلى مكان الحفرة، وقهرتني عجزتي عن إنقاذه بعدما سقط في القاع. أبلغت الدفاع المدني والشرطة، واستغرقوا نحو ست ساعات لانتشاله”. وناشدت منظمة الصحة العالمية إخراج بقية الأطفال لوالدهم في مصر.
عطا.. وذاكرة ريان
تعيد قصة عطا، الطفل الفلسطيني ذي الأعوام الستة، إلى الذاكرة مأساة الطفل المغربي ريان. ففي الحالتين، سقط الطفلان في بئر عميقة، لكن الإنسان سقط قبلهما.
لخمسة أيام متواصلة حبست فرق الإنقاذ في المغرب أنفاس العالم بحثًا عن ريان، توفرت الإمكانيات، وتكاتفت الجهود، وتصدّر الحدث شاشات الإعلام. أما في غزة، فلم تستغرق فرق الإنقاذ سوى خمس ساعات، وبإمكانيات بدائية، لانتشال جثمان عطا، بعيدًا عن عدسات الكاميرات وضجيج الأخبار. كُتب الخبر ببرود: “وفاة طفل غرقًا في بئر”، وكأن الموت في غزة بات خبرًا اعتياديًا لا يوقظ ضميرًا.
يقول ناصر مي “أبو شدق”، من أقارب الطفل، إن مأساة عطا “جزء لا يتجزأ من مأساة الشعب الفلسطيني”. ويضيف لصحيفة “فلسطين”، بعينين تحاصرهما دموع الفقد: “إن كان العالم الظالم يرى بعين واحدة ومن ثقب إبرة، فنقول إن أطفال غزة لا يختلفون عن أطفال العالم. نحن شعب يحب الحياة، ومن حق أطفالنا أن يعيشوا بكرامة ويتعلموا”.
ويتابع: “العالم رأى حجم الدمار الذي خلّفته آلة الحرب في شبكات الصرف الصحي والمجاري، والطفل بطبيعته يتوق للعب والحياة، لا يفرّق بين أماكن الخطر، لكن قدر الله أن يكون عطا من ضحايا العدوان”.
في مصر، كان مأمون مي “أبو شدق”، والد عطا، يعدّ الأيام مترقبًا عودته إلى أطفاله بعد رحلة علاج رافق فيها والدته. طال الغياب، واشتاق الأطفال، ثم جاءه خبر سقوط طفله.
بقلب مثقل بالفقد، يروي الأب لصحيفة “فلسطين”: “خلال الحرب، كان أطفالي الأربعة يتنقلون من مكان إلى آخر، بينما كنت في مصر، ووالدتهم استشهدت في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023. أُصيب عطا في رأسه وقدمه، ومكث أربعة أشهر في العلاج، خرج من غيبوبة طويلة، وبقي متأثرًا بالمشهد؛ رأى البيت ينهار فوقهم، وأمه تُستشهد حين أُخرج من بين الركام مع إخوته”.
دخل عطا الحرب في الرابعة من عمره، وخرج من رحلة العلاج ليواجه قسوتها من جديد. يقول والده بحسرة: “كان في الصباح يبحث عن الماء، ويجمع الأخشاب لطهي الطعام. وحتى يوم سقوطه في البئر، كان خارجًا في هذا الجو العاصف بحثًا عن الحطب أو النايلون لإشعال النار. أخرجته قسوة الظروف”.
ويتابع الأب: “لم يكن يفهم معنى الاستشهاد في البداية، كان يظن أن أمه سافرت مثلي وستعود. كبر قليلًا وفهم الحقيقة، فصار ينتظر عودتي. كنت أواسيه وأقول: سيفتح المعبر قريبًا وسأجلب لك ألعابًا، فيفرح مؤقتًا، ثم يعود للحزن ويسأل: ليش بابا ما إجا؟ ليش ما بحضنيش؟”.
موت يتربص بالأطفال
في بيت مهجور ومكشوف، بلا نوافذ أو أبواب ولا أدنى مقومات الحياة، عاش عطا وإخوته قرب عمتهم، بعدما اختاروا العودة من نزوح الجنوب بين “السيّئ والأسوأ”. يناشد الأب أصحاب القلوب الرحيمة مساعدته على لمّ شمل أطفاله، قائلًا بحرقة: “رحل عطا دون أن أحضنه أو ألمس شعره. كان يتمنى أن يكبر ويدخل الجامعة ويصبح مثلي. وُلد في 2 فبراير/شباط 2019، وكان ذكيًا. لم يبقَ لأطفالي غيري”.
في غزة، يموت الأطفال بردًا، وغرقًا، وتحت القصف. وخلال هذه الحرب، تجاوز عدد الأطفال الشهداء 20 ألف طفل، في واحدة من أبشع الجرائم بحق الطفولة في العصر الحديث. حادثة عطا تسلّط الضوء على واقعٍ مأساوي خلّفته الحرب: آبار مكشوفة، وحفر عميقة خلفها القصف، وبرك مياه بين الركام، تحوّلت جميعها إلى أفخاخ موت تهدد حياة الأطفال، في مدينة لم يعد الخطر فيها استثناءً، بل واقعًا يوميًا.