دون سابق إنذار وتجاهلا لمقترحات الوسطاء لأجل الانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار (19 يناير/ كانون ثان – 1مارس/ آذار 2025)، أصدر رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي المجرم بنيامين نتنياهو قرارا في 2 مارس بإغلاق جميع معابر ومنافذ قطاع غزة.
جاء القرار الإسرائيلي آنذاك بعد 42 يوما من اتفاق وقف إطلاق النار الذي لم يسعف مئات آلاف المدنيين الذين حوصروا عسكريا شمال القطاع ودفعهم الجوع لتناول حشائش الأرض وحبوب الحيوانات، دون أن ينهضوا مجددا أو يدركوا هم وغيرهم من سكان غزة الذين يقدر عددهم 2.3 مليون إنسان أنهم على موعد مع الجوع الأشد فتكا وأطول زمنا.
واصطفت آنذاك شاحنات المساعدات الإنسانية التابعة للهيئات الأممية والمؤسسات الدولية لأيام وأسابيع دون سماح جيش الاحتلال لها بالعبور حتى عادت أدراجها تاركة غزة أمام مصير مجهول.
في الشهر الثاني للمجاعة إبريل/ نيسان بدأت مشاهد تجمع المواطنين تتزايد أمام المطابخ المجتمعية التي اعتمدت على مخزونها الغذائي الذي لم يسعفها إلا قليلا وظهرت آنذاك مشاهد مأساوية لأطفال وكبار السن يلتهمون بقايا الطعام من قاع القدور.
مطلع مايو/أيار، بدأت حالات سوء التغذية تتوافد إلى المستشفيات وسط ارتقاء عدد من الأطفال نتيجة الجوع، وحينها حذر مدير برنامج الطوارئ في منظمة الصحة العالمية د. مايكل ريان أن "أجساد وعقول أطفال غزة تتكسر من قلة الطعام".
وأطلق برنامج الغذاء العالمي للأمم المتحدة ووكالة "أونروا" تحذيرا شديدا بأن المساعدات الموعودة لم تصل، لترد واشنطن و"تل أبيب" بخطوة أحادية لإطلاق عمل مراكز توزيع المساعدات قرب مراكز تمركز قوات الجيش، لتشهد "غزة أكثر لحظات الفوضى دموية لأجل الطعام".
في تلك الأوقات نفد حليب الأطفال من معظم المرافق الطبية ونقاط التوزيع، بدأت الأمراض المرتبطة بسوء التغذية تتفشى بسرعة تفوق قدرة المستشفيات المنهكة على الاستجابة، وبدأ القطاع الصحي ينذر بالانهيار مع تكدس الأطفال الخدّج في حاضنة واحدة وتزايد أعداد المرضى الوفيات نتيجة نقص الرعاية الطبية والأدوية.
ودفع ذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش غزة بأنها "عرض رعب"، مؤكدا أن الجوع يدق الأبواب كلها، كما اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن "كثيرين يموتون جوعا في غزة".
في أغسطس/ آب الماضي، أعلنت الأمم المتحدة وخبراء دوليون رسميا للمرة الأولى في الشرق الأوسط تفشي المجاعة على نطاق واسع في قطاع غزة.
وأصدرت منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) وبرنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) بيانا مشتركا بجنيف أكدت فيه أن أكثر من نصف مليون شخص في غزة عالقون في مجاعة.
وبحسب (التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي) فإن أكثر من نصف مليون شخص في غزة يواجهون ظروفا كارثية أي المرحلة الخامسة من التصنيف، ومن خصائصها الجوع الشديد والموت والعوز والمستويات الحرجة للغاية من سوء التغذية الحاد.
وذكر التصنيف آنذاك أن 1.07 مليون شخص آخر (54% من السكان) يواجهون المرحلة الرابعة وهي مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد الطارئ، كما يواجه 396 ألفا (20% من السكان) المرحلة الثالثة وهي مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد.
وإزاء ذلك، اضطرت (إسرائيل) آنذاك لتفادي الغضب العالمي من مشاهد الموت للأطفال والكبار في غزة نتيجة المجاعة، فسمحت بدخول شاحنات محدودة وتركت الجياع للتهافت عليها ما أسفر عن مشاهد فوضوية ودموية أخرى في غزة.
وسمح جيش الاحتلال أيضا لدول عربية وإسلامية بإنزال مساعدات جوية على المجوعين في غزة ما أسفر عن ارتقاء عشرات المواطنين نتيجة الإنزال الخاطئ لصناديق المساعدات التي لم تلبي الحد الأدنى لإطعام المحاصرين.
وجاءت تلك الوقائع بعد تضرّر نحو 86% من الأراضي الزراعية في غزة بشكلٍ كبير منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كما دمرت معظم البيوت البلاستيكية والآبار والحقول والبساتين بصورة شبه كاملة، وقد طال الدمار أيضا قطاع الثروة الحيوانية وأُبيدت قطعان الأبقار والأغنام والدواجن والنحل، التي كانت تشكّل مكوّنًا جوهريًا في منظومة إنتاج الغذاء في القطاع.
حصيلة مرعبة
في 10 أكتوبر/ تشرين أول الماضي دخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ برعاية الوسطاء مصر وقطر وتركيا وإشراف الإدارة الأمريكية، وشكل ذلك أملا للغزيين بانتهاء الحرب والمجاعة.
لكن ذلك لم يشكل أفقا لنهاية حتمية لحصيلة ضحايا القتل والمجاعة في غزة، وسجلت تقارير أممية وحكومية وفاة ما لا يقل عن 457 حالة وفاة نتيجة المجاعة وسوء التغذية، من بينهم 165 طفلا نتيجة الغذاء الحاد.
وحذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) من أن الأمهات اللائي يعانين من سوء التغذية في غزة يلدن الآن أطفالا ناقصي الوزن أو مبتسرين، يموتون في وحدات العناية المركزة أو يكافحون للبقاء على قيد الحياة وهم يعانون من سوء تغذية حاد أو مضاعفات طبية محتملة مدى الحياة.
وأفادت بدخول 9300 طفل المستشفيات للعلاج من سوء التغذية الحاد رغم الاتفاق الذي كان يفترض أن يتيح تدفقا أكبر للمساعدات الإنسانية منذ أكتوبر.
وبموجب الاتفاق يفترض أن يسمح جيش الاحتلال بإدخال 600 شاحنة يوميا، لكن الرصد الحكومي يشير إلى دخول نحو 200-250 شاحنة يومية أغلبها تجارية لا إنسانية.
ومع إعلان الولايات المتحدة انتهاء عمل "مؤسسة غزة الإنسانية" في نوفمبر/ تشرين ثان، تكون الأخيرة شكلت "مصائد الموت" لما لا يقل عن 798 فلسطينيا قرب نقاطها الملاصقة لمواقع جيش الاحتلال وقرب قوافل لمنظمات إغاثة أخرى، وفقا لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان.
وحصد الإنزال الجوي الخاطئ لصناديق المساعدات أرواح ضحايا 25 مواطنا وتدمير دفيئات زراعية وخيام للنازحين.
وأخيرا، أكد تصنيف دولي لانعدام الأمن الغذائي تشارك فيه الأمم المتحدة، وصدر ديسمبر/ كانون أول الجاري، أنه رغم تحسن الأمن الغذائي والتغذية في غزة مقارنة بتحليل سابق رصد وجود مجاعة، فإن غالبية السكان في الشهرين الماضيين استمروا في مواجهة مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
وأفاد (التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي) بأن أكثر من 500 ألف شخص واجهوا مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد "الطارئ" (المرحلة 4 من التصنيف) وأكثر من 100 ألف شخص يعانون من ظروف كارثية (المرحلة 5)، خلال الفترة بين تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: "المكاسب هشة، بل هشة بشكل خطير، إنه ليحزنني أن أرى الحجم المستمر للمعاناة الإنسانية في غزة، فالعائلات تتحمل ما لا يطاق، ويُجبر الأطفال على النوم في خيام غمرتها المياه، وتنهار المباني - التي تضررت بالفعل بسبب القصف - تحت وطأة الأمطار والرياح، ما يحصد المزيد من أرواح المدنيين".
وتوقع التصنيف أن يبقى الوضع حرجا - خلال الفترة بين 1 كانون الأول/ديسمبر 2025 و15 نيسان/أبريل 2026 - حيث لا يزال حوالي 1.6 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي في مرحلة الأزمة أو ما هو أسوأ.
ووفقا للتصنيف، حتى منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2026، من المتوقع أن يعاني ما يقرب من 101 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين 6 و59 شهرا في جميع أنحاء القطاع من سوء التغذية الحاد ويحتاجون إلى العلاج مع أكثر من 31 ألف حالة شديدة.
وخلال الفترة نفسها، ستواجه 37 ألف امرأة حامل ومرضعة أيضا سوء التغذية الحاد وتحتاج إلى العلاج.
وحذر التصنيف من أن غزة بأكملها معرضة لخطر المجاعة حتى منتصف نيسان/أبريل 2026.
كما حذرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) ومنظمة (اليونيسف) وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية أنه بدون توسيع نطاق المساعدات الغذائية والمعيشية والزراعية والصحية بشكل مستدام وكبير إلى جانب زيادة التدفقات التجارية، قد يعود مئات الآلاف من الناس بسرعة إلى حالة المجاعة.
ودعت المنظمات الأممية إلى ضمان وصول المساعدات الإنسانية والتجارية بشكل مستدام وآمن ودون عوائق وفي الوقت المناسب إلى جميع أنحاء غزة، ورفع القيود المفروضة على الواردات الأساسية بما في ذلك المدخلات الزراعية والسلع الغذائية ومستلزمات التغذية والرعاية الصحية.
وحثت أيضا على زيادة التمويل بسرعة للخدمات الأساسية بما في ذلك الغذاء والتغذية والصحة والمياه والصرف الصحي والدعم الزراعي والمعيشي، لمنع المزيد من التدهور وتمكين إعادة التأهيل والتعافي إلى جانب إعادة تنشيط الإنتاج الغذائي المحلي وسلاسل القيمة.
وخلصت الأمم المتحدة إلى أن عام 2025 هو الأكثر جوعا في غزة، وفي ختام 12 شهرا رسمت صورة عام كامل من الانهيار الإنساني المتواصل بلا مؤشر حقيقي لنهاية المأساة.

