في داخل كل إنسان تمزّقٌ صامت، لا يُرى بالعين ولا يُقاس بالأرقام، لكنه يُحدّد مسار حياته كلّه. هذا التمزّق ليس وليد لحظة واحدة، بل نتيجة تراكمات طويلة من الإهمال، والانفصال عن المعنى، وتغليب الظاهر على الباطن. وكلما اتّسع هذا الشقّ في الداخل، اندفع الإنسان للبحث عن رقعة أكبر في الخارج، وكأن الخارج قادر على إصلاح ما أفسدته الغفلة في العمق. لهذا نرى أن حاجات الإنسان لا تقف عند حدّ الضرورة، بل تتضخّم بلا سقف. لا لأن الطبيعة البشرية لا تشبع، بل لأن الداخل لم يُسأل يومًا عمّا يحتاجه حقًّا. فالجائع إلى الطمأنينة يخطئ العنوان، ويظن أن الامتلاك سيمنحه السكون، وأن الظهور سيعالج شعوره بالخواء، وأن الانتماء الصاخب سيعوّض فقدان الجذور. غير أن ما لا يُعالَج من الداخل، يعود في صورة قلق أشدّ، وتعلّق أعمى، واضطراب لا يهدأ.
المجتمع الحديث لم يساعد الإنسان على مواجهة هذا التمزّق، بل وفّر له أدوات لا نهائية للهروب منه. كثّف الإيقاع، وسرّع الزمن، وملأ الفراغ بالضجيج. صار الصمت يُخيف، والتأمل يُربك، والمراجعة تُعدّ ضعفًا. فالمطلوب دائمًا هو الحركة، الإنتاج، التفاعل، ولو على حساب التوازن الداخلي. وهكذا تحوّل الإنسان إلى كائن مشغول باستمرار، لكنه غير حاضر مع نفسه. من هنا يمكن فهم كثير من الظواهر الاجتماعية الحادّة: التطرّف في الأفكار، الهوس بالهويّات، التعصّب للرأي، والانجذاب إلى نماذج تُقدَّم بوصفها منقذة أو مخلّصة. فحين يعجز الفرد عن ترميم داخله، يبحث عمّن يفعل ذلك نيابة عنه، ولو بوهمٍ جماعي. وحين لا يجد معنى شخصيًا متينًا، يتشبّث بمعنى صاخب يُفرض بالقوة. ليست المشكلة في الفكرة ذاتها، بل في الفراغ الذي يُحمَّل بها.
الأخطر من ذلك أن هذا الخلل بات مُشرعنًا اجتماعيًا. تُقاس قيمة الإنسان بما يملك لا بما يكون، وبما يظهر لا بما يستقرّ فيه. تُكافَأ السرعة، ولو كانت بلا وجهة، ويُهمَّش التأنّي، ولو كان طريقًا للاتزان. وبهذا، يُعاد إنتاج التمزّق جيلاً بعد جيل، لا بوصفه أزمة، بل كنمط حياة. غير أن الحكمة الإنسانية العميقة، عبر التجارب المتراكمة للأمم، تقول لنا شيئًا آخر: إن الخارج لا يُصلَح إلا بقدر ما يُصلَح الداخل. وإن الإنسان الذي لا يعرف موضع الخلل في نفسه، سيظلّ يطالب العالم بأن يتغيّر لأجله. بينما الذي يبدأ بالمراجعة، وبإعادة بناء العلاقة مع ذاته ومع القيم العليا، يخفّ احتياجه إلى الترقيع، ويستعيد قدرته على العيش بطمأنينة، لا بتكديس البدائل.
ليس المطلوب انسحابًا من المجتمع، ولا رفضًا للحياة، بل استعادة البوصلة. أن يعرف الإنسان لماذا يفعل ما يفعل، وأن يسأل نفسه قبل أن يطالب غيره. فحين يضيق التمزّق في الداخل، تصغر الرقعة المطلوبة في الخارج. وحين يُشفى المعنى، يهدأ السلوك، ويستقيم الحضور في العالم. ذلك أن الأزمات الكبرى لا تبدأ في الشوارع ولا في المؤسسات، بل في القلوب حين تُهمَل، وفي العقول حين تُفصل عن الحكمة. ومن هناك، فقط من هناك، يبدأ الإصلاح الحقيقي.
وفي هذا السياق، يمكن فهم العلاقة الملتبسة بين التمزّق الداخلي والسلطة، أيًّا كان شكلها: سلطة سياسية، دينية، فكرية، أو حتى رمزية. فالسلطة حين تُقدَّم بوصفها مانحة للمعنى، لا مجرّد منظّمة للحياة، تتحوّل إلى أداة ترميم خارجي للإنسان القَلِق. عندها لا يعود السؤال: هل هذه السلطة عادلة أو حكيمة؟ بل: هل تمنحني شعورًا بالتماسك؟ وحين يُختزل المعنى في الانتماء، يصبح الدفاع عنه دفاعًا عن الذات الجريحة، لا عن الحقيقة. وهكذا يُنتَج خطاب عام مشحون، لا لأنه قائم على معرفة راسخة، بل لأنه محمّل بأثقال نفسية غير محلولة. تختلط القناعات بالمخاوف، والمبادئ بالرغبات المكبوتة، وتتحوّل اللغة إلى ساحة تفريغ لا إلى أداة فهم. ومن هنا نفهم لماذا تتكرّر الصراعات ذاتها بأسماء مختلفة، ولماذا تفشل كثير من المشاريع الإصلاحية رغم نُبل شعاراتها: لأنها تعالج السطح بأدوات السطح، وتتجاهل الشقّ العميق الذي يتغذّى من الداخل.
المعرفة نفسها، حين تنفصل عن الحكمة، قد تصبح شكلًا آخر من الترقيع. فليس كل من يعرف قد التئم، وليس كل من يحسن الكلام قد استقرت روحه. بل أحيانًا تتحوّل المعرفة إلى وسيلة للهيمنة، أو إلى قناع يخفي خواءً أعمق. المعرفة التي لا تُنتج تواضعًا، ولا توسّع أفق الإنسان تجاه ذاته، تظلّ معرفة ناقصة، مهما بدت متقنة أو متراكمة. في المقابل، فإن التجارب الإنسانية العميقة تُظهر أن الترميم الحقيقي يبدأ من لحظة صدق مع النفس، لحظة يعترف فيها الإنسان بأن بعض جراحه لا يملك لها اسمًا بعد. هذه اللحظة ليست ضعفًا، بل بداية قوة مختلفة: قوة الاتزان. فحين يقبل الإنسان هشاشته، يتوقّف عن مطالبة الخارج بأن يكون كاملًا، ويبدأ في بناء علاقة أكثر رحمة مع نفسه ومع العالم.
وهنا يتجلّى الفرق بين الإصلاح بوصفه مشروع سيطرة، والإصلاح بوصفه مسار وعي. الأول يريد تغيير الناس بسرعة، والثاني يبدأ بتغيير زاوية النظر. الأول ينشغل بالنتائج، والثاني يهتم بالجذور. وما لم تُمسّ الجذور، سيظلّ كل تغيير مؤقّتًا، وكل ترميم عرضة للانهيار مع أول صدمة.
إن استعادة البوصلة التي أشرنا إليها ليست حدثًا واحدًا، بل ممارسة مستمرة: أن يتعلّم الإنسان الإصغاء لما يسكنه، لا لما يطالبه به الضجيج. أن يميّز بين الحاجة الحقيقية والرغبة التعويضية. أن يسأل نفسه: هل ما أفعله يزيدني اتزانًا أم يوسّع شرخي؟ هذا السؤال البسيط، إن طُرح بصدق، قد يكون أعمق من كثير من الإجابات الجاهزة.
وفي نهاية المطاف، لا يُقاس نضج الأفراد ولا المجتمعات بقدرتهم على رفع الشعارات، بل بقدرتهم على تحمّل الصمت، وعلى مراجعة الذات دون خوف، وعلى قبول أن الإصلاح البطيء من الداخل، وإن بدا غير مرئي، هو وحده القادر على الصمود. فحين يلتئم الداخل، لا يعود الخارج ساحة إسعاف دائم، بل مجال فعل متّزن، وحضور مسؤول، وحياة أقل ضجيجًا وأكثر معنى.