مع بدء حرب الإبادة على قطاع غزة، وبينما يعيش الفلسطيني المغترب حزنًا مضاعفًا، بعيدًا عن مآسي عائلته ووطنه، متشاركًا مع أهله القهر من بلاد الغربة، واستشهاد الدكتور رفعت العرعير، صاحب مبادرة “ليسوا أرقامًا”، وجدت الصحفية الغزّية المقيمة حاليًا في تركيا ياسمين عنبر نفسها أمام أمانة تركها الشهيد، فبادرت إلى حمل الرسالة وإكمال الطريق.
وثّقت عنبر مئة قصة من قصص الشهداء في كتاب صدر مؤخرًا عن مؤسسة القدس الدولية، حمل الاسم ذاته لمبادرة العرعير، تخليدًا لذكراه. كتابٌ كُتب بحبر الدم، يروي قصص الشهداء، وكان أشبه بصرخة في وجه “الصمت العالمي” تجاه المجازر المرتكبة في غزة.
خلال الإبادة، وبينما كانت أعداد الشهداء تتسابق على شريط الأخبار ثم تختفي وسط الأحداث المتسارعة، وتُدفن قصصهم قبل أن تُروى، كانت عنبر تبحث عن حكاياتهم، وتسلّط الضوء عليها لتبقى حيّة لا تموت، فغدت مرآةً لهؤلاء الشهداء.
ويمثل الكتاب، كما يقول رئيس مجلس إدارة مؤسسة القدس الدولية، حميد بن عبد الله الأحمر، التي رعت العمل، في مقدمة الكتاب، “محاولةً لإنقاذ الأسماء من مقصلة الإحصاء، ومحاولةً لفتح نافذة صغيرة على البيوت التي أُطفئت، والغرف التي ظلت تنتظر أصحابها بلا جدوى، ومحاولةً ليبقى الشهيد اسمًا، وصوتًا، وضحكةً، وحلمًا، وخوفه الأخير، وآخر ما تركه على وسادته، لا رقمًا يمرّ في شريط أخبار”.
واجب أخلاقي
لم يكن الكتاب مشروعًا أدبيًا فحسب، ولا مجرد تجميعٍ لقصص، بل واجبًا أخلاقيًا وشخصيًا شعرت به الكاتبة، وهي ترى الوجوه من حولها تُمحى وتتحول إلى أرقام في تقارير رسمية وبيانات عاجلة، ونتاج رحلة طويلة من العمل الصحفي والإنساني، وفق الأحمر.
وحرصت عنبر على تجميع مئة قصة من فئات مختلفة: الأطفال، والأطباء، والمسعفون، والصحفيون، والعائلات التي استُهدفت بالكامل. ولم تكن أي قصة نقلًا عن مصدر ثانوي، بل ثمرة تواصل مباشر مع عائلات الشهداء ومن عرفوهم وعايشوا تفاصيل حياتهم الأخيرة.
وعلى مدار ثلاثة أشهر من اللقاءات عن بُعد، واجهت عنبر صعوبةً شديدة في الحصول على شهادات أقارب الشهداء أو أصدقائهم، نظرًا لقطع الإنترنت عن غزة لفترات طويلة خلال الحرب، ونزوح الأهالي المتكرر.
واعتمدت في الكتاب على منهجية تمزج بين السرد الصحفي والحسّ الأدبي الإنساني، مع الحرص على أن تبقى كل قصة حقيقية وموثقة، وأن تُعرض المعلومة كما هي، مستخدمةً ضمير المتكلم، وكأن الشهيد يروي قصته بنفسه.
وتقول عنبر لـصحيفة “فلسطين”: “اخترت أن يروي الشهيد قصته للعالم بلسانه وبضمير المتكلم، ليشعر القارئ أن الشهداء يحدثونه مباشرة. لم أحب أن أتحدث عنهم وأنا بعيدة عن الموت، واخترت أن يكونوا مع القارئ دون وسيط، كأنه يقول له: هذه حكايتي، فتتحرك المشاهد أمام القارئ وكأنه يراها لا يقرأها”.
وتضيف بنبرة فخر: “كان واجبًا على كل إنسان فلسطيني أن ينصر قضيته وشعبه بطريقته، وفي الميدان الذي يستطيع أن يفعل أو يؤثر فيه. فكما كان أهلنا في غزة في ميدان الصمود والمقاومة، رغم الجحيم والنار التي صُبّت عليهم طوال الحرب، كنا نحن المغتربين نساندهم بكل ما نستطيع، ونكون صوتهم إلى العالم. وكان هذا الكتاب ثمرةً من ثمار هذا التفاعل الذي لم ينقطع مع أهلنا في غزة”.
قصص مؤثرة
وثّقت عنبر في الكتاب قصة أحلام علاونة، التي قدمت من جنين إلى غزة في نهاية سبتمبر/ أيلول 2023 لزيارة ابنتها المتزوجة هناك، لتعيش بعد أسبوعين فقط ويلات الحرب والقصف والإبادة. وعندما نزحت ابنتها إلى جنوب القطاع، رفضت علاونة مغادرة مدينة غزة، بانتظار فتح حاجز “إيرز”، بعدما كانت أوراقها جاهزة للعودة إلى جنين.
نزحت علاونة إلى بيتٍ آخر لعلّه يكون أكثر أمانًا، لكنه قُصف هو الآخر، لتبدأ رحلة نزوح طويلة انتهت بالمستشفى المعمداني. وفي الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 كان موعد عودتها إلى جنين.
هيّأت نفسها للسفر ضمن قافلة لمنظمة الصحة العالمية إلى الأردن، بعد حصولها على تحويلة طبية طال انتظارها، وقبل موعد السفر بثلاثة أيام، وأثناء مرورها من أمام سوق “فراس” بمدينة غزة، وقع قصف إسرائيلي في المكان، فأصابتها إحدى الشظايا، لتنزف جنينًا على أرض غزة، حيث يعانق الجبل البحر.
كما يعرض الكتاب قصة الشهيد هاشم غزال، وهو من فئة الصم، كان يعلّم أبناءه الأشغال اليدوية لدمجهم في المجتمع. أنجب أطفالًا صمًّا، وكانت زوجته الناطقة مترجمةً له ولأبنائها مع المجتمع. وعندما قُصف منزله، استُشهد هو وزوجته، وبقيت بناته عالقات تحت الأنقاض، غير قادرات على إبلاغ طواقم الدفاع المدني بأنهنّ على قيد الحياة، فيما كانت الطواقم تقف فوق الأنقاض. وقد بُترت أصابع إحدى البنات التي كانت تستخدمها في لغة الإشارة.
وتوثّق كل قصة في الكتاب حلمًا أبادته الحرب، كقصة الشهيدة فاطمة جراد، ابنة خالة الكاتبة. وتروي عنبر: “قالت لي فاطمة قبل استشهادها بيومين إنها تتمنى أن تصبح أمًا، لكن الاحتلال ارتكب مجزرة بحق الأجنّة باستهداف مركز البسمة للإخصاب، وقتل فيها خمسة آلاف جنين. واستُشهدت فاطمة في قصفٍ لاحق، دون أن تعيش حلم الأمومة”.
وصدر الكتاب في السادس من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وجرى توزيعه على مشاركين من أكثر من أربعين دولة، خلال مؤتمر “العهد للقدس” في إسطنبول. وتشكر عنبر مؤسسة القدس الدولية التي فتحت الأبواب لقلمها ليبصر النور ويسرد قصص الشهداء، عبر طباعة وإصدار الكتاب.
وتقول إن أكثر ما أشعرها بالفخر هو تفاعل عائلات الشهداء مع الكتاب، معتبرين إياه توثيقًا وتخليدًا لذكرى أحبّتهم، ولمرحلة فاصلة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ستُروى للأجيال القادمة.