تكشف بيانات وضع الاستثمار الدولي والدَّين الخارجي لفلسطين عن مفارقة واضحة في بنية الاقتصاد الفلسطيني؛ إذ تتجاوز الأصول الفلسطينية المستثمرة في الخارج 16 مليار دولار، في حين لا تزيد الاستثمارات الأجنبية الموظَّفة في الداخل على نحو 6 مليارات دولار.
ولا تعكس هذه الفجوة ضعفًا في الموارد بقدر ما تشير إلى أزمة ثقة عميقة وبيئة استثمار طاردة، تجعل الاقتصاد الفلسطيني عاجزًا عن استيعاب رأس المال الوطني وتوظيفه في مشاريع إنتاجية تُسهم في النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل.
ويرى المحلل الاقتصادي د. نائل موسى أن هذه الأرقام تدل على «نزيف رأسمالي مستمر»، حيث يفضّل رأس المال الفلسطيني البقاء خارج الحدود بحثًا عن الأمان والاستقرار، في وجود مخاطر سياسية واقتصادية مرتفعة، وقيود يفرضها واقع الاحتلال، إلى جانب ضعف الإطار المؤسسي والقانوني المنظِّم للاستثمار.
ويشير د. موسى إلى أن هذا السلوك يعكس تفضيل المستثمرين الحفاظ على رؤوس أموالهم بدل خوض المخاطرة في سوق محلية تفتقر إلى الحماية الكافية، وهو ما يحدّ من قدرة الاقتصاد على خلق قيمة مضافة وتعزيز الإنتاج المحلي.
ويوضح د. موسى لصحيفة «فلسطين» أن تركّز أكثر من ثلاثة أرباع الأصول الخارجية في العملة والودائع يعكس سلوكًا دفاعيًا لرأس المال، لا يهدف إلى خلق فرص عمل أو مشاريع إنتاجية، بل إلى حماية المدخرات من المخاطر المحتملة.
ويعدّ هذا نمطًا اقتصاديًا إيداعيًّا هشًّا، غير قادر على تحقيق نمو مستدام أو زيادة مساهمة القطاعات الاقتصادية المحلية في الناتج الإجمالي، ويؤدي إلى بطء التنمية، وارتفاع معدلات البطالة، وتزايد التبعية للموارد الخارجية.
ويعزو المحلل جزءًا من هذا الخلل إلى غياب العملة الوطنية الفلسطينية، الأمر الذي يحدّ من فاعلية السياسة النقدية، ويجبر المؤسسات المالية على الاحتفاظ بودائعها خارج النظام المالي المحلي. كما تشكّل أموال المقاصة المحتجزة لدى الاحتلال عامل عدم يقين دائم، تُستخدم كأداة ضغط سياسي تؤثر مباشرة في الاستقرار المالي وتعيق قدرة الحكومة على التخطيط المالي طويل الأمد.
ورغم أن الاستثمار الأجنبي المباشر يشكّل النسبة الأكبر من الاستثمارات الوافدة، فإن د. موسى يشير إلى أن تركّزه في قطاعات خدمية وريعية، مثل البنوك والتأمين والاتصالات، يقلّل من أثره التنموي، ولا يُسهم في إحداث تحوّل هيكلي في الاقتصاد، أو دعم القطاعات الإنتاجية، أو تعزيز الصادرات المحلية، وهو ما ينعكس سلبًا على قدرة الاقتصاد الفلسطيني على تحقيق تنمية متوازنة ومستدامة.
وفيما يتعلق بالدَّين الخارجي، يرى د. موسى أن ارتفاعه إلى أكثر من ملياري دولار، مع استحواذ الحكومة على الحصة الأكبر منه، يفرض أعباء إضافية على المالية العامة، ويقلّص قدرة الحكومة على توجيه الإنفاق نحو مشاريع تنموية، في ظل ارتفاع كلفة خدمة الدَّين، ما يزيد الضغط على الموارد المحلية ويضعف قدرة الاقتصاد على الصمود أمام التحديات الخارجية.
ويخلص المحلل إلى أن استمرار هذا النموذج الاقتصادي يجعل الاقتصاد الفلسطيني أكثر هشاشة أمام الصدمات السياسية والمالية، ويحدّ من قدرته على الصمود، مؤكدًا أن الرهان على القروض أو انتظار تدفّق الاستثمارات الأجنبية ليس خيارًا مستدامًا، وأن الحل الحقيقي يتطلب سياسات وطنية متكاملة تهدف إلى تعزيز الثقة في الاقتصاد المحلي.
وبحسب د. موسى، فإن التحدي الحقيقي يكمن في استعادة ثقة رأس المال الفلسطيني، عبر استراتيجية وطنية شاملة لتحسين بيئة الاستثمار، وتعزيز سيادة القانون، وتوفير حوافز حقيقية لتوجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية، مثل الصناعة والزراعة والطاقة والخدمات الأساسية.
ودون ذلك، ستبقى الوفرة المالية خارج الحدود، وسيظل الاقتصاد الفلسطيني أسير التبعية والهشاشة، مع استمرار معاناة الشباب من البطالة وغياب فرص النمو المستدام.