في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2023، دوّن القصف الإسرائيلي فصلًا دامياً في حكاية عائلةٍ فلسطينية كاملة، حين اغتالت الصواريخ الشاعرة منى شمالي وزوجها الحكيم فهيم حسنين وبناتهما الخمس، لتُمحى أسرةٌ بأكملها من الحياة دفعةً واحدة.
سبعُ أرواحٍ رحلت معًا؛ أكبرهن لم تتجاوز الثالثة عشرة، وأصغرهن كانت في عامها الثالث. فتياتٌ متفوقات، حافظات لكتاب الله، يحملن أحلامًا صغيرة بحجم أعمارهن. غابوا جسدًا، لكن أسماءهم بقيت حيّة في ذاكرة العائلة، كشهادةٍ موجعة على مجزرةٍ لم تترك خلفها سوى الفقد والأسى، وعلى وحشيةٍ تمسح البيوت وأهلها من السجلّ المدني بلا رحمة.
كان الحديث عن منى وأسرتها جزءًا من حديثٍ متواصل عن أوجاعٍ لم تتوقف شقيقتها سماح يومًا عن استحضارها أو الكتابة عنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ فالفاجعة فاقت حدود التخيّل لدى العائلة، خاصة أنهم كانوا قد نزحوا إلى جنوب قطاع غزة، يحلمون باليوم الذي يعودون فيه إلى شماله لاحتضان منى وبناتها.
فـ"منى" - كما تروي شقيقتها - شاعرة وخريجة آداب اللغة العربية من الجامعة الإسلامية، لها ديوان شعري مسرحي بعنوان "دموعٌ أسيرة" صدر عام 2010، كأول عمل في الشعر المسرحي بقطاع غزة. وقبل استشهادها كانت قد تعلّمت اللغة العبرية، وبدأت خطواتها الأولى في ترجمة الأخبار العبرية.
وتضيف: «أما زوجها الشهيد الحكيم فهيم حسنين، فقد كان ابنًا بارًا، وأبًا حنونًا، ومربّيًا فاضلًا، وزوجًا أصيلًا».
تستذكر سماح بنات شقيقتها واحدةً تلو الأخرى، فتقول عن الابنة الكبرى جُمان (13 عامًا): «كانت طالبةً مهذبةً متفوقة، الأولى على صفها؛ حافظةً لكتاب الله، حاصلةً على دورات أحكام مبتدئة وعليا، وتستعد لنيل السند عن رسول الله ﷺ، كما حصلت على الحزام الأخضر في الكاراتيه، وكانت منشدةً ذات صوتٍ عذب».
وتضيف: «كانت تحبّ العلم ومطالعة الكتب والموضة والأزياء، وتتمنى السفر خارج غزة، وأن تتفوق في الثانوية العامة لتدرس في الخارج، ثم تعود وتعمل وتمتلك مالًا وفيرًا. أخبرتني في عيد ميلادها الثالث عشر — والأخير — في الأول من ديسمبر من العام المنصرم، أنها تحلم بانتهاء الحرب لنلتقي، لأنها تحبنا كثيرًا واشتاقت إلينا».
أما الابنة الثانية يَمان، فكانت «ستّ البيت المُعدَّلة»، القادرة على تعويض غياب أمها لساعاتٍ قليلة، وتتقن دورها في المطبخ، وتمارس أمومتها وحنانها تجاه أخواتها الصغيرات. «كانت متفوقة، لا تعرف في سجلّ درجاتها سوى الرقم 99، وتحفظ جدران مدرستها صدى صوتها وهو يعلو عبر الإذاعة المدرسية».
وتتابع: "كانت يَمان تفوز دائمًا بالمسابقات المدرسية وتحصل على شهادات التكريم، تكتب الشعر كأمها، وتحصد الميداليات الذهبية في الكاراتيه كأخواتها، وتحفظ القرآن الكريم، وتمتد أحلامها إلى بطولات عالمية وجوائز دولية".
وتشير إلى أنها كانت تتمنى أن تصبح كوافيرة ومترجمة في آنٍ واحد، مضيفة: «كانت تُخبرني سرًا بأنها تقسم مصروفها اليومي بينها وبين زميلتها التي لا يتقاضى والدها راتبًا، وتنصح من تُخطئ من زميلاتها؛ فتصرفاتها كانت تفوق سنّها».
ولا تغيب عن بال سماح ذكريات الابنة الثالثة بيسان: «تسيطر على خيالي مشاهد عزيمتها واجتهادها؛ أتذكرها في بيتي تدرس العلوم مع ابني عاصم، وفي بيت جدّها ترتّل آياتٍ من سورة الزمر على مسامع أمها».
أما الابنة الرابعة ماريا - كما تبيّن شمالي - فكانت هادئةً وذكية؛ ورثت عن أبيها الوقار والهدوء، وعن أمها الذكاء والنعومة. «كانت كالفراشة بين أخواتها، تتوق لأن تكون متفوقة كجُمان، وبطلة كيمان، وحافظةً كبيسان. وكانت، وهي في الرابعة، تعدّ الأيام لتبلغ الخامسة وتلتحق بنادي الكاراتيه كأخواتها».
وتستذكر بأسى: «في مثل هذه الأيام كان من المفترض أن تستلم ماريا شهادة الصف الأول، وتعود مسرعةً إلى أمها كما تفعل أخواتها، حاملات شهادات التقدير ويطلبن منها شراء الحلويات لتوزيعها في المدرسة. لكن تفصيلةً كهذه لم تُردها إسرائيل؛ فبراءة ماريا ورقّة قلب منى شكّلتا خطرًا عليها، فاغتالتهما، واغتالت معهما يافا، التي لم تتجاوز آنذاك ثلاثة أعوام».
وزادت المأساة وطأةً على عائلة شمالي أن ابنتهم وأسرتها — الذين استشهدوا في استهدافٍ إسرائيلي لمنزل الأستاذ شريف العسلي، أُلقيت خلاله براميل متفجرة وصاروخ من طائرة «إف-16»، وأسفر عن مجزرة راح ضحيتها مئة شهيد — دُفنوا دون وداع، إذ كانت العائلة نازحةً في جنوب قطاع غزة.
وتضيف شمالي: «انتشلهم الجيران ودفنوهم، ووصلنا خبر استشهادهم بعد أحد عشر ساعة. كان الخبر كالصاعقة، ورغم الصدمة والوجع والألم الشديد، كانت أول كلمات أمي: لله الأمر من قبل ومن بعد».
وتختم بالقول: «نعاني مرارة غياب شقيقتنا حتى هذه اللحظة، لكن عزاءنا أنها شهيدة برفقة عائلتها، وحسبنا أنهم في الجنان بإذن الله».

