تحت سقفٍ يتداعى للانهيار في أحد مراكز إيواء نازحي حرب الإبادة الجماعية، تقضي الطفلة مرام الدِّغل أيامها بذاكرةٍ مثقلةٍ بمشاهد لن تنساها ما حييت، منذ أن نجت وحيدةً من قصفٍ إسرائيلي دمّر منزل عائلتها فوق رؤوس ساكنيه.
تعيش الطفلة البالغة من العمر (14 عامًا) داخل غرفةٍ مسقوفةٍ بخرسانةٍ متشققة، تتدلى منها قضبان حديدية صدئة، في مدرسةٍ تقع بحيّ الدرج، تحوّلت إلى مركز لإيواء نازحي الحرب. تجلس مرام لساعاتٍ طويلة على فراشٍ إسفنجيّ بارد، تحدّق في شاشة هاتفٍ تقلّب فيه الصور واحدةً تلو الأخرى، فتبدو معزولةً عن كل ما حولها، كأنها تعيش في مساحةٍ خاصةٍ لا يدخلها أحد سوى الذكريات.
في الحيّ الواقع بقلب مدينة غزة، لم يعد الدمار مشهدًا عابرًا في حياة مرام، بل واقعًا مريرًا يخفي وراءه شهادةً حيّة على «جريمة» إبادة ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، في خضمّ الحرب التي بدأها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واستمرت 734 يومًا.
تعود الحكاية إلى يوم 7 ديسمبر/كانون الأول 2023، في الشهر الثالث من الحرب، وهو يومٌ ثقيل بتفاصيله ونهايته بالنسبة لمرام وعائلتها، إذ كانت الإبادة قد بلغت ذروتها، واشتدّ معها القصف الجوي الإسرائيلي، مترافقًا مع توغّلٍ بريّ في عدة محاور من المدينة.
في ذلك الصباح، كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة، حين اجتمعت مرام ووالدتها في مطبخ المنزل. ورغم الرعب الذي خيّم على الجميع، بدأتا بإعداد وجبة طعامٍ بسيطة، بينما كان والدها وأشقاؤها الخمسة ينتظرون موعد الإفطار.
تقول مرام لصحيفة «فلسطين»: «كنا نسمع أصوات القصف، وكان الرعب يملأ قلوبنا كلما حلّقت الطائرات على ارتفاعاتٍ منخفضة. كانت أمي تتمنى أن نموت معًا إذا تعرّضنا للقصف، حتى لا يصاب أحدنا بالحسرة».
لم تكن مرام تعلم أن لحظاتٍ قليلة تفصلها عن تحوّل حياتها إلى ذاكرةٍ مثقلة بالفقد والحرمان، وأن ذلك الصباح سيكون الأخير الذي يجمعها بأمها وعائلتها كاملة.
فجأةً، ومن دون إنذارٍ مسبق، دوّت ثلاثة انفجاراتٍ عنيفة هزّت أرجاء حيّ الدرج، وتصاعدت أعمدة دخانٍ أسود ورمادٍ كثيف غطّت سماء المنطقة. هرع السكان فورًا إلى موقع القصف الذي استهدف منزل عائلة الدِّغل في حيّ مكتظّ بالسكان.
ومع انقشاع غبار القصف، تكشّفت معالم المذبحة الإسرائيلية؛ إذ سُوّي منزل العائلة، المكوّن من خمسة طوابق، بالأرض، وخُنقت أصوات من كانوا آمنين داخله. سادت رائحة البارود المكان، وبينما عُثر على جثامين شهداء وأشلائهم، اختفت أخرى تحت الركام.
تقول مرام بصوتٍ هادئ، مستعيدةً أقسى لحظات حياتها: «لم أعرف في البداية ما الذي حصل، فجأةً وجدت نفسي محاطة بقطعٍ خرسانيةٍ يغطيها الرماد».
كانت تسمع أنينًا خافتًا سرعان ما خمد، وتشعر بثقل الحجارة على جسدها الصغير، وتحاول مقاومة الاختناق برئتين امتلأتا بالغبار.
وتضيف: «كنت أنادي أمي، لكنها لم تجب… حاولت تحريك يدي ولم أستطع… ظننت أنني سأموت هناك».
بقيت الطفلة تحت الركام ساعتين كاملتين، قبل أن يتمكّن المسعفون وطواقم الدفاع المدني من إنقاذها. نُقلت بعدها إلى عيادة البندر في حيّ الدرج لتلقّي الإسعافات الأولية، ثم إلى مجمّع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة.
وتتابع: «كنت أشعر بآلامٍ شديدة في كل جسدي، ولم أستطع الحركة بعد نجاتي من القصف».
ورغم إصابتها بحروقٍ وجروحٍ في أنحاء جسدها استغرق شفاؤها منها أشهرًا طويلة، فإن وجع مرام الأكبر كان فقدان عائلتها بالكامل: والدها أحمد الدِّغل (35 عامًا)، ووالدتها زينب (34 عامًا)، وشقيقيها عاصم، المصاب بالتوحّد (16 عامًا)، وعدنان (9 أعوام)، وشقيقاتها الثلاث: ملك (14 عامًا)، وميرا (8 أعوام)، وميار (6 أعوام).
ولم يكن أفراد أسرة مرام وحدهم ضحايا الغارة؛ إذ ارتقى فيها أيضًا 29 فردًا من عائلة الدِّغل، بقي أكثر من عشرة شهداء منهم تحت الركام، بينهم والدها وشقيقاها، وفق ما تؤكده مرام.
مع خروجها من المستشفى، بدأت الطفلة رحلة نزوحٍ جديدة داخل مدينة غزة، لا تقل قسوةً عن لحظة الجريمة الأولى. تنقّلت بين عدة مراكز إيواء برفقة أقاربها، تحمل حقيبةً صغيرة لا تضم سوى بعض الملابس، وذاكرةً مثقلة بوجوهٍ لن تعود.
في كل خيمةٍ تدخلها، كانت تبحث عن شيءٍ يشبه بيتها: رائحة طعام، صوت والدها، أو ضحكة أمها وشقيقاتها، لكنها كانت تجد الصمت، وبطانياتٍ بالية، وأجسادًا أنهكها النزوح وقسوة الحرب.
تعترف مرام بأنها لم تتوقع يومًا أن تفقد عائلتها كاملة، وتؤكد أنها لن تنسى الجريمة التي غيّبت «أعزّ الناس على قلبها» وأبقتها وحيدةً تصارع الحياة، وأنها ستظل حيّة في ذاكرتها مهما مرّت السنوات.
وتقول، وهي تغالب دموعها: «سألاحقهم… سألاحق من قتل عائلتي بلا ذنب، هذه الجريمة لن تمر».
تحت السقف نفسه الآيل للسقوط في مركز الإيواء، كان عمّها مروان الدِّغل (26 عامًا) يرمقها بنظرات حسرة، إذ يستعدان قريبًا للانتقال إلى مركز إيواء آخر، للعيش تحت خيمةٍ لا تقيهما برد الشتاء ولا الأمطار. يقول لـ«فلسطين»: «مرام في قلبي، أحتضنها بين أضلعي… هي كل حياتي وأهم ما فيها».
تدرك مرام أن الخيمة لن تشبه بيتها الذي دمّره جيش الاحتلال، بعدما كان عامرًا بالأيام الجميلة والذكريات التي لن يمحوها الزمن، لكنها في الوقت ذاته تمثّل لها ما تبقّى من العائلة. وبينما تحاول التمسك بالأمل، تتطلع إلى أن تمنحها الحياة فرصةً جديدة، رغم كل ما سُلب منها.