بعد أكثر من عامين من حرب الإبادة التي خلّفت دمارًا واسعًا في قطاع غزة، تتكشف فصول مأساة إنسانية مركّبة يعيشها الأشخاص ذوو الإعاقة، الذين تضاعفت معاناتهم بفعل النزوح القسري، وفقدان المأوى، وانهيار الخدمات الصحية والتأهيلية، وتغييب الحرب البيئة الآمنة التي تضمن لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
ويقدَّر عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في القطاع بأكثر من 170 ألف شخص، إلى جانب أسرهم، يعيشون اليوم بين واقع قاسٍ وأحلام مؤجّلة بمستقبل أكثر عدالة وإنصافًا.
في هذا السياق، يؤكد الخبير في مجال الإعاقة والتأهيل في قطاع غزة، مصطفى عابد أن الحديث عن مستقبل الأشخاص ذوي الإعاقة بعد التعافي من الحرب «لم يعد ترفًا أو شعارًا إنسانيًا عامًا، بل ضرورة وجودية".
ويشدد في حديث لـ "فلسطين أون لاين" على أن ذوي الإعاقة لا يطالبون بامتيازات خاصة، بل بحقوق أساسية تكفل لهم الكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، وتكافؤ الفرص، والتمكين والاستقلالية.
ويقول عابد:" إن أكثر من 170 ألف شخص من ذوي الإعاقة وأسرهم يحلمون بحياة كريمة تشبه ما هو معمول به في الدول التي تعتمد أنظمة شاملة في التعليم والعمل والصحة والنقل".
ويضيف:" إلا أن الواقع في غزة مختلف تمامًا، في ظل النزوح والموت والدمار، وتعطّل الكثير من الأطر التنفيذية، وتراجع الالتزام العملي بالاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
ويوضح أنه رغم ذلك، فإن ذوي الإعاقة ما زالوا يتمسكون بالأمل، ويرفضون اختزالهم في صورة الضحايا الدائمين، ويؤمنون بدورهم كشركاء حقيقيين في عملية التعافي وإعادة الإعمار.
واقع معيشي معقد
ويشير عابد إلى أن الأشخاص ذوو الإعاقة في غزة يواجهون سلسلة من التحديات المتداخلة، في مقدمتها ضعف الوصول إلى الخدمات الصحية والتأهيلية المتخصصة، نتيجة تدمير المراكز الطبية، ونقص الكوادر، وارتفاع تكلفة العلاج، وصعوبة إدخال الأجهزة المساعدة مثل الكراسي المتحركة، وأجهزة السمع والبصر.
ونبه إلى أن ذلك قد انعكس بشكل مباشر على نوعية حياتهم وقدرتهم على الاستقلالية والمشاركة المجتمعية.
ولفت إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الأشخاص ذوي الإعاقة بشكل لافت، في ظل "التمييز في سوق العمل، وغياب برامج التدريب المهني الملائمة، وضعف السياسات التي تضمن نسب توظيف عادلة"، وفق قوله.
ويضيف:" ما يزيد من تعقيد المشهد افتقار المباني العامة والمدارس ووسائل النقل لمعايير الوصول الشامل، ما يفرض عزلة قسرية على كثيرين، ويحد من اندماجهم في الحياة اليومية والاجتماعية".
القوانين غير مطبقة
من جانبه، يرى الخبير في مجال التأهيل والإعاقة، حسام الشيخ يوسف أن المشكلة الأساسية لا تكمن في غياب القوانين المحلية، بل في القصور الواضح في تطبيقها.
ويشير إلى أن الحرب العدوانية التي استمرت لعامين أفرزت واقعًا جديدًا تمثّل في زيادة غير مسبوقة في أعداد الأشخاص ذوي الإعاقة، إلى جانب دمار شامل للبنية التحتية في كل مناحي الحياة.
ويؤكد الشيخ يوسف أن هذا الواقع يفرض الحاجة إلى رؤية استراتيجية شمولية تأخذ بعين الاعتبار المستجدات والوقائع التي أفرزتها الحرب، وتستجيب للارتفاع الكبير في الاحتياجات الصحية والتعليمية والاجتماعية والتشغيلية.
وحذر من أن تجاهل هذه المتغيرات سيحوّل الحديث عن مستقبل أفضل إلى مجرد أحلام مؤجّلة، مؤكداً أن ضمان العيش الكريم لذوي الإعاقة يبدأ بتفعيل القوانين القائمة، وربطها بآليات تنفيذ ومساءلة حقيقية، بدل الاكتفاء بنصوص قانونية غير مطبّقة.
أما مدير منتدى غزة للإعاقة البصرية، علي طعيمة وهو من الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، فينقل صورة ميدانية أقرب إلى معاناة الناس.
ويقول:" إن ذوي الإعاقة اليوم فقدوا المأوى، والاحتياجات الأساسية، وأدوات التأهيل، بل وحتى الشعور بالأمان"، معتبرًا أن أي عملية إعادة إعمار لا تضع احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة في صلب التخطيط والتنفيذ ستكون إعادة إعمار ناقصة وغير عادلة.
ويشدد طعيمة على ضرورة إشراك الأشخاص ذوي الإعاقة أنفسهم في تخطيط وتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، وفق المعايير الدولية للمواءمة، لضمان سهولة الوصول والحركة في المساكن، والمؤسسات العامة، والبنية التحتية.
ويضيف:" نحن لا نطالب بالشفقة أو الإحسان، بل بحقنا في مدينة يمكننا العيش فيها بكرامة واستقلالية، وأن نكون جزءًا من مستقبلها".
رؤية مستقبلية
وتتقاطع آراء الخبراء الثلاثة حول الحاجة إلى رؤية مستقبلية شاملة بعد التعافي من الحرب، تقوم على تحويل الأشخاص ذوي الإعاقة من متلقّين للمساعدة إلى شركاء فاعلين في التنمية.
وترتكز هذه الرؤية على عدة محاور أساسية، أبرزها تعزيز الإطار القانوني والمؤسسي عبر تحديث وتفعيل القوانين، ومواءمتها مع الاتفاقيات الدولية، وإنشاء آليات رقابية مستقلة تضمن حسن التطبيق.
كما تشدّد الرؤية على تطوير الخدمات الصحية والتأهيلية، من خلال إعادة تأهيل وتوسعة المراكز المتخصصة، وتوفير الأجهزة المساعدة الحديثة، وإدماج التكنولوجيا في خدمات العلاج والتأهيل.
وفي مجال التعليم، تدعو إلى تطبيق سياسات التعليم الدامج في جميع المراحل، وتدريب المعلمين، ودعم التعليم الجامعي والتقني للأشخاص ذوي الإعاقة.
ويُعدّ التمكين الاقتصادي حجر الزاوية في هذه الرؤية، عبر توفير برامج تدريب مهني ملائمة، ودعم ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة، وتحفيز القطاع الخاص على التوظيف العادل.
كما تؤكد على أهمية اعتماد معايير الوصول الشامل في إعادة الإعمار، وتطوير وسائل نقل عامة ميسّرة، وإطلاق حملات توعوية لتغيير النظرة النمطية تجاه الإعاقة، وتعزيز ثقافة الاحترام والمساواة.
النساء ذوات الإعاقة
وتلفت الرؤية إلى الأوضاع الخاصة للنساء والفتيات من ذوات الإعاقة، اللواتي يواجهن تمييزًا مزدوجًا بسبب النوع الاجتماعي والإعاقة، ما يجعلهن أكثر عرضة للتهميش والعنف.
وتطالب بتعزيز وصولهن إلى التعليم والرعاية الصحية، ودعم حقهن في تكوين أسرة، ورفع الوصاية المجتمعية، وتوفير سياسات حماية وتمكين تراعي خصوصيتهن.
وأشاروا إلى أهمية دور المجتمع المدني والشركاء الدوليين كعنصر أساسي في دعم هذه الرؤية، عبر تقديم الدعم الفني وبناء القدرات، وتمويل برامج التعليم والتأهيل والتشغيل، والضغط لضمان احترام حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وإدماج قضاياهم بشكل واضح في خطط التعافي وإعادة الإعمار.

