مع اقتراب نهاية عام 2025، يواجه الاقتصاد الفلسطيني أسوأ أزماته منذ سنوات، فقد غرق معظم القطاعات في ركود عميق، وتدهورت القدرة الشرائية للمواطنين بشكل كبير، وسط ارتفاع حاد في معدلات البطالة والفقر، خاصة في قطاع غزة.
وعلى الرغم من صمود المواطنين وقدرتهم على التكيف مع الصدمات المتكررة، يحذر خبراء الاقتصاد من أن استمرار هذا الوضع دون سياسات إصلاحية جذرية قد يقود إلى تدهور أكبر في المستقبل، مؤكدين أن التعافي يعتمد على إنهاء الحرب، وإعادة الإعمار، والإفراج عن الأموال المحتجزة، ووضع خطط استراتيجية تحمي الاقتصاد والمواطنين من الانهيار الكامل في السنوات المقبلة.
وأكد الخبير الاقتصادي د. وليد الجدي أن مناقشة واقع الاقتصاد الفلسطيني خلال عامين من الحرب لا يمكن أن تتم بالمنهج التقليدي، لأن ما شهده الاقتصاد خلال تلك الفترة تجاوز مفهوم الانهيار الاقتصادي إلى ما يمكن توصيفه بالدمار الاقتصادي الشامل وغير المسبوق محليًا وعالميًا.
وقال لـ "فلسطين أون لاين": العجلة الاقتصادية كانت شبه متوقفة، ومقومات الإنتاج والتشغيل غائبة، ورؤوس الأموال تعرضت للاستنزاف، ما أدى إلى تدهور غير مسبوق في أوضاع رجال الأعمال وأصحاب المصانع والتجار، ووصلت الظروف المعيشية للكثير منهم إلى مستويات بالغة الصعوبة.
وأوضح الجدي أن المشهد الاقتصادي خلال حرب الإبادة اتسم بتناقض حاد، حيث برزت فئات من تجار الربا والمحتكرين والسارقين الذين سيطروا على الحياة الاقتصادية في ظل تغييب الحرب للمنظومة القانونية والرقابية، ما أدى إلى تشكل واقع اقتصادي مشوّه ومنحى مقلوب لا يمكن إخضاعه للتقييم العلمي أو الاقتصادي السليم، لأن الاقتصاد الذي تحكمه الفوضى واللصوص وقطاع الطرق لا يمكن اعتباره اقتصادًا طبيعيًا أو قابلًا للقياس.
وأشار إلى أن سنوات الحرب لم تقتصر آثارها على الجانب الاقتصادي فقط، بل شكلت مرحلة دمار متكامل طال البنية الاجتماعية والأمنية والسياسية والصحية والبيئية والتعليمية، الأمر الذي يجعل توصيف الحالة العامة بأنها دمار شامل هو الأقرب إلى الواقع.
وأضاف الجدي، أن الاحتلال وأدواته كان له الدور المركزي في هذا التدمير، إلى جانب ممارسات الاحتكار، والدور السلبي الذي لعبته بعض المؤسسات المصرفية في دعم الاقتصاد الحقيقي، وتغييب الحرب للرقابة الأمنية والتنفيذية، وشح الموارد الصناعية والتجارية، إضافة إلى انهيار رؤوس أموال عدد كبير من التجار ورجال الأعمال واستنزاف المقدرات الوطنية.
وبيّن الجدي أن العامل الوحيد الذي حال دون انهيار الحياة الاقتصادية بالكامل كان صمود المواطنين وقدرتهم الاستثنائية على التأقلم مع التغيرات البيئية والاجتماعية والتقلبات الأمنية والسياسية المتسارعة، مؤكدًا أن هذا الصمود شكّل الدعامة الأساسية لاستمرار الحد الأدنى من النشاط الاقتصادي الذي تعيش عليه الأسر حتى اليوم، ويمكن اعتباره معجزة حقيقية في ظل هذا الواقع القاسي.
وفيما يتعلق بالضفة الغربية، أوضح أن أوضاعها الاقتصادية تبدو أفضل نسبيًا مقارنة بقطاع غزة، إلا أنها ليست بمعزل عن التدهور، حيث تأثرت بشكل مباشر وغير مباشر بما يجري في غزة، إلى جانب غياب الرقابة الإدارية والسياسية الفاعلة، ما انعكس على الأداء الاقتصادي العام هناك.
وختم الجدي حديثه بالتأكيد على أن فهم أسباب الدمار الاقتصادي واستخلاص العبر منها يمثلان خطوة أساسية لأي عملية إصلاح مستقبلية، مشددًا على أن إعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني لا يمكن أن تنطلق دون معالجة جذرية للاختلالات البنيوية التي كشفتها الحرب بوضوح.
وأكد تقرير الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء أن الاقتصاد الفلسطيني لا يزال غارقًا في حالة ركود ممتد وعميق، حيث يشير التقرير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام الحالي ما زال متراجعًا بنسبة 24% مقارنة بعام 2023، بواقع 13% في الضفة الغربية و84% في قطاع غزة.
كما شهد التبادل التجاري مع العالم الخارجي انخفاضًا بنسبة 12%، نتيجة تراجع الواردات بنسبة 17%، مقابل ارتفاع محدود في الصادرات بنسبة 5%، بينما انخفض الاستهلاك الكلي بنسبة 24%، وهو ما يعكس تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وتقلص النشاط الاقتصادي بشكل عام.
وأظهرت البيانات أن معدلات البطالة بلغت مستويات خطيرة، حيث بلغ متوسطها نحو 46%، بواقع 28% في الضفة الغربية و78% في قطاع غزة، فيما تجاوزت مستويات الفقر في غزة مفهوم الفقر التقليدي إلى مستويات مختلفة من المجاعة وانعدام الأمن الغذائي، خاصة مع تجاوز معدلات الفقر 63% قبل العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023.
كساد عميق
من جهته أكد الخبير الاقتصادي د. ماهر الطباع أن الأزمة الاقتصادية في فلسطين لا تكمن في نقص البيانات أو التحليلات، بل في غياب السياسات العملية والتوصيات الفعلية لمواجهة التدهور الاقتصادي، مشيرًا إلى أن العام الحالي شهد تقارير وتحليلات اقتصادية كثيرة ركزت على وصف الواقع وإثبات سوء الأوضاع، دون تقديم سياسات واضحة لحماية الاقتصاد والمواطن، مع سيادة شعور بالعجز وتحميل المسؤولية للاحتلال والحرب والمانحين الدوليين.
وأضاف الطباع لـ "فلسطين أون لاين" أن هناك انطباعًا سائدًا بأن الإجراءات الحالية مؤقتة، وأن الاقتصاد قد يعود تلقائيًا لما كان عليه قبل الحرب بحلول عام 2026، استنادًا إلى افتراض انتهاء الحرب وتغير حكومة الإحتلال، محذرًا من خطورة هذا التفكير على المدى الطويل.
وأوضح أن تراجع الناتج المحلي الإجمالي لفترات طويلة، مع استمرار البطالة فوق 20% لأكثر من عشرين عامًا، يشير إلى دخول الاقتصاد الفلسطيني في حالة كساد عميق، مؤكدًا أن الكساد يختلف عن الركود في الشدة والمدة، فهو تدهور طويل الأمد يضرب الاقتصاد بأكمله ويغير قواعد اللعبة للمستثمرين والأفراد.
وأشار إلى أن الكساد يبدأ عادة بتحول المخاوف الفردية إلى حالة جماعية، مع تراجع الطلب والاستهلاك، وتقليص الإنتاج والاستثمارات، وارتفاع البطالة، إضافة إلى تراجع الإنفاق وزيادة الميل نحو الادخار لدى الأفراد والشركات.