فلسطين أون لاين

الهدم كأداة تهويد: كيف تُعاد صياغة القدس ديموغرافيًا

لا يمكن قراءة ما يجري في القدس من هدم لمنازل الفلسطينيين ومنشآتهم، بمعزلٍ عن تصاعد المشاريع الاستيطانية، التي تقرها أذرع الاحتلال في شطري المدينة المحتلة، ما يُشير بكل وضوح إلى وجود حرب ديموغرافية ممنهجة، تسعى من خلالها سلطات الاحتلال إلى إحداث تغييرات مباشرة في الميزان السكاني لشطري القدس المحتلة، وتهدف من خلال هذه الاعتداءات إلى إضعاف الوجود الفلسطيني في المدينة المحتلة، خاصة أن الوجود الفلسطيني بحد ذاته، والمرتبط بأرضه، والذي يمثل عقبة أمام مشاريع التهويد المختلفة، ومحاولات فرض السيطرة الشاملة على الواقع الديموغرافي للقدس المحتلة، ويسعى الاحتلال إلى تقليص الوجود الفلسطيني إلى أدنى حد ممكن.

معاناة تسبق الهدم

ولا تبدأ هذه المخططات بالهدم فقط، بل تضيق سلطات الاحتلال على الفلسطينيين، وتمنعهم من البناء في القدس المحتلة بشكلٍ قانوني، فبحسب المعطيات لا تخصص بلدية الاحتلال سوى 7% فقط من مساحة الشطر الشرقي من القدس للفلسطينيين للبناء، وعلى الرغم من ذلك ترفض سلطات الاحتلال نحو 98% من طلبات الترخيص الفلسطينية، إلى جانب فرضها رسومًا تعجيزية تصل في كثيرٍ من الأحيان إلى أكثر من 70 ألف دولار للرخصة الواحدة. وهو ما يدفع المقدسي قسرًا إلى البناء من دون ترخيص، بهدف الحصول على مسكن يأويه برفقة أسرته، وهنا تتدخل جرافات الاحتلال لهدم المنزل تحت ذريعة "البناء غير المرخص"، وهو ما يعرف بـ الهدم الإداري، وهو النوع الأكثر شيوعًا بين أنواع الهدم الأربعة التي يمارسها الاحتلال. وفي سياق الهدم، تفتقت العقلية الإسرائيلية الإقصائية على واحدة من أدوات تدمير حياة الفلسطيني في المناطق المحتلة، والمتمثلة في "الهدم الذاتي" أو "القسري"، حيث يُجبر الاحتلال المقدسي على هدم منزله بيده، على أثر تهديده بالغرامات الباهظة، ويضطر لذلك الفلسطيني تفاديًا للغرامات الباهظة، ودفع تكاليف الهدم التي تبدأ بالجرافات والحراسة الأمنية، وتصل حتى أجرة استخدام الكلاب البوليسية.

تصاعد كبير في الهدم، وخسائر ضخمة

نتيجة الحرمان من رخص البناء الذي أشرنا إليه آنفًا، تُشير تقديرات بلدية الاحتلال في القدس، بأن *عدد المباني المعرضة للهدم يصل إلى نحو عشرين ألف مبنى، أي أن الجزء الأكبر من المباني المدينة المحتلة معرضٌ للهدم في أي وقت*، وبحسب معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هدمت سطات الاحتلال ما بين 1/1/2009 و6/10/2024 نحو 2084 منزلًا ومنشأة في القدس المحتلة، وهذا ما أدى إلى تهجير نحو 4159 فلسطينيًا، وتضرر نحو 50 ألفًا آخرين، ولا شك أن أعداد الوحدات المهدمة تصاعدت بشكلٍ كبير على أثر حملات الهدم الممنهجة خلال العامين الماضيين، بالتزامن مع حرب الإبادة في غزة. ويُشير مركز معلومات فلسطين "معطى" إلى أن سلطات الاحتلال نفذت منذ بدء حرب الإبادة في 8/10/2023 أكثر من 482 عملية هدم ممتلكات للفلسطينيين في القدس المحتلة، ما يعني أن عداد الهدم في القدس المحتلة ما بين 1/1/2009 ونهاية عام 2025 يتجاوز 2126 عملية هدم.

هذه السياسة المستمرة والمتصاعدة، كبدت المقدسيين خسائر اقتصادية فاقت 9 مليارات دولار، خلال السنوات الماضية*، لكن الخسارة الأكبر هي الآثار النفسية والاجتماعية؛ وما يتصل بفقدان الأمان النفسي، والحياتي والأسري، وانعكاسات عمليات الهدم المباشرة على الأطفال والنساء، إلى جانب تعمد قيام الاحتلال بالهدم بشكلٍ مفاجئ في الكثير من الحالات، ومنع الفلسطينيين من أخذ أمتعتهم وأغراضهم، ما يفاقم الخسارة المادية والمعنوية للفلسطينيين.

تصاعد الهدم والاستيطان

أي متابع لتطورات الأوضاع في القدس المحتلة، سيلاحظ تصاعد عمليات الهدم في القدس المحتلة، والتي وصلت في 22/12/2025 إلى هدم بناية سكنية كاملة، وتشريد أكثر من 100 فلسطيني دفعةً واحدة، إضافةً إلى استمرار عمليات الهدم القسرية أو من خلال جرافات الاحتلال. بالتوازي مع عمليات الهدم الممنهجة، إذ تسابق أذرع الاحتلال وسلطاته المختلفة الوقت لإقرار المزيد من المشاريع الاستيطانية، وآخرها مخططات ضخمة ضمن مشروع "القدس الكبرى"، وإقرار خطط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية على أراضي مطار قلنديا، وتوسيع عدد من البؤر الاستيطانية في الشطر الشرقي من القدس، وتصعيد استهداف التجمعات البدوية القريبة من تلك المناطق، في محاولة لإقرار واقع استيطاني جديد، يفرض عزل شمال الضفة الغربية عن جنوبها، وإخلاء مساحات واسعة من الجهة الشرقية من القدس المحتلة من سكانها من التجمعات البدوية وغيرها.

في المحصلة، لا يمكن فصل سياسة هدم المنازل في القدس المحتلة عن المشروع الاستيطاني الأشمل، الذي يستهدف إعادة تشكيل المدينة ديموغرافيًا وجغرافيًا، بما يضمن تكريس السيطرة الإسرائيلية عليها، وتقويض أي إمكانية لوجود فلسطيني مستقر فيها. فالهدم ليس عدوانًا عابرًا مقصودًا بذاته، بل تحول إلى أداة مركزية في حرب طويلة الأمد، تُدار بصمت أحيانًا وبعنف فجّ في أحيان أخرى، ضد الإنسان الفلسطيني وحقه في السكن والأمان والاستقرار. وإزاء هذا الواقع، تتجاوز معركة المقدسيين مسألة البيت المهدوم، لتصبح معركة بقاء وصمود في وجه سياسات إقصاء ممنهجة، تسعى إلى تفريغ القدس من أهلها الأصليين، وفرض وقائع لا يمكن تغييرها إلا بإرادة سياسية وقانونية دولية حقيقية، تقف عند مسؤولياتها تجاه مدينة واقعة تحت الاحتلال.

المصدر / فلسطين أون لاين