رغم المزاعم الإسرائيلية المتكررة بانتهاء المجاعة في قطاع غزة، يؤكد الواقع الإنساني والصحي، المدعوم ببيانات أممية وشهادات طبية ميدانية، أن المجاعة ما تزال قائمة بأشكال مختلفة، وأن ما أعلن مؤخرًا لا يتجاوز كونه تراجعًا تقنيًا في التصنيف، لا يعكس نهاية الكارثة الإنسانية التي يعيشها الأهالي.
وأثار إعلان التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، الصادر في 19 ديسمبر/كانون الأول 2025، والذي أشار إلى تراجع تصنيف المجاعة عقب وقف إطلاق النار في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025، جدلًا واسعًا، استغلته (اسرائيل) سياسيًا للادعاء بانتهاء المجاعة.
غير أن التقرير ذاته شدد على أن الأزمة لم تنتهِ، وأن أسباب المجاعة ما تزال قائمة وقابلة للانفجار مجددًا في أي لحظة.
ووفق تقرير IPC، فإن نحو 1.6 مليون شخص، أي ما يقارب 77% من سكان قطاع غزة، ما يزالون يعيشون في مستويات أزمة غذائية حادة (IPC3+)، من بينهم أكثر من 100 ألف شخص في مستوى الكارثة (IPC5)، وهو ما ينقض بشكل مباشر رواية الاحتلال حول «تحسن شامل» أو «تعافٍ غذائي».
ويؤكد التقرير المذكور، أن أي تحسن مسجَّل هو هش ومؤقت، مرتبط بوقف إطلاق النار الجزئي وتدفق محدود للمساعدات، محذرًا من أن هذا التحسن قد ينهار حتى أبريل/نيسان 2026 في حال تعطلت سلاسل الإمداد أو أُعيد تشديد القيود على المعابر.
استمرار العبء الغذائي
بدوره، يوضح خبير التغذية والتثقيف الصحي هشام حسونة أن "المجاعة في تصنيف IPC هي حكم على منطقة كاملة، وليس إعلان شفاء للأطفال أو انتهاء الجوع".
ويقول حسونة لـ "فلسطين أون لاين": "قد تتراجع عتبة Famine/IPC5 عندما تتحسن مؤشرات الوصول للغذاء والوفيات نسبيًا، لكن الضرر الصحي الذي خلّفته المجاعة لا يزول فورًا. آلاف الأطفال الذين تدهورت حالتهم يحتاجون أسابيع وأحيانًا أشهر للعلاج، وبعضهم سيحمل آثار الجوع طوال حياته".
ويشير إلى أن تقرير IPC نفسه ربط أي تحسن بوقف إطلاق النار، لكنه أكد بوضوح استمرار العبء الغذائي الكبير، وبقاء مئات آلاف الأسر على حافة الجوع، مع توقع استمرار الأزمة حتى أبريل 2026 ما لم يُضمن تدفق الغذاء والخدمات دون انقطاع.
ويشرح حسونة أن سوء التغذية الحاد لدى الأطفال من عمر 6 إلى 59 شهرًا يُشخَّص وفق معايير طبية دقيقة، تشمل: أولا: محيط منتصف العضد (MUAC): سوء تغذية حاد شديد عند أقل من 11.5 سم، ومتوسط بين 11.5 و12.5 سم، ثانيا: الوزن بالنسبة للطول (WHZ): شديد عندما يقل عن -3، ومتوسط بين -2 و-3، ثالثا: الوذمة الثنائية الانطباعية: مؤشر خطير على المجاعة حتى لو بدا الوزن طبيعيًا.
وبحسب حسونة، فإن قدرة المنظومة الصحية المنهكة على الاستجابة لا تزال محدودة، إذ يُعالج بعض الأطفال عبر برامج علاج خارجي، بينما تتكدس الحالات الأشد في مرافق تفتقر إلى الأدوية والمستلزمات، ما يجعل المجاعة حالة مستمرة وليست حدثًا منتهيًا.
ويحذّر من أن المجاعة خلّفت آثارًا بعيدة المدى، تشمل التقزم، وتأخر النمو الجسدي والعقلي، وضعف المناعة، وفقر الدم، وتراجع القدرات التعليمية، وهي آثار لن تزول مع أي تغيير شكلي في التصنيف.
كما يشير إلى انتشار نواقص حادة في الحديد، وفيتامين A، والزنك، واليود، تظهر في صورة إنهاك عام، وعدوى متكررة، واضطرابات في النمو، ما يعكس عمق الأزمة الغذائية المستمرة.
ويؤكد حسونة أن فصل الشتاء يزيد من تفاقم المجاعة، نتيجة زيادة احتياج الجسم للطاقة، وانتشار الالتهابات التنفسية والإسهالات، في ظل غياب التدفئة والمياه النظيفة، ما يعيد آلاف الأسر إلى مربع الخطر الغذائي.
وحول الادعاء الإسرائيلي بانتهاء المجاعة، يشدد حسونة على أن ذلك لا يتحقق بإعلان سياسي أو تحسن مؤقت، بل فقط عندما تستقر المؤشرات لفترة طويلة، ولا يعود أي جزء من غزة قريبًا من عتبة المجاعة، ويصبح وصول الغذاء حقًا ثابتًا لا أداة ضغط أو ابتزاز.
ويختم بالتأكيد على أن استمرار القيود على المعابر، وتذبذب المساعدات، وانهيار الخدمات الأساسية، يعني أن المجاعة في غزة لم تنتهِ، وأن الادعاء بعكس ذلك لا يعدو كونه محاولة لتبييض واقع إنساني كارثي ما يزال قائمًا.
ومن منظور القانون الدولي الإنساني، يُعدّ استخدام التجويع كوسيلة حرب جريمة محظورة صراحة. وتنص المادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على حظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال، بما في ذلك تدمير أو تعطيل المواد التي لا غنى عنها لبقائهم. كما يؤكد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، في مادته (8)، أن تجويع المدنيين عمدًا بحرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم يشكل جريمة حرب.
وبناءً على ذلك، فإن استمرار القيود على إدخال الغذاء والدواء والمياه، والتحكم بسلاسل الإمداد، ومنع وصول المساعدات الإنسانية بشكل كافٍ ومنتظم إلى سكان قطاع غزة، لا يُعدّ فشلًا إنسانيًا فحسب، بل يرقى إلى مسؤولية قانونية دولية، خاصة في ظل توثيق أممي يثبت بقاء مئات آلاف المدنيين في مستويات متقدمة من انعدام الأمن الغذائي.