على الرغم من إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وبدء تنفيذ مراحل ما يُعرف بـ"خطة ترامب"، لا تزال آلة الحرب الإسرائيلية تحصد الأرواح وتدمّر ما تبقى من القطاع، في مشهد يختصر – وفق مراقبين – فشل المجتمع الدولي في فرض أي التزام فعلي على الاحتلال.
في هذا السياق، يقدّم الخبير العسكري والإستراتيجي فايز الأسمر قراءة معمّقة لطبيعة السلوك الإسرائيلي، وأسباب تعطيل المرحلة الثانية من الاتفاق، ودور الوسطاء، وانعكاسات الغياب الكامل للمحاسبة الدولية.
يرى الأسمر أن ما تقوم به (إسرائيل) لا ينفصل عن عقيدة عدوانية راسخة تسكن الفكر الأمني والسياسي الإسرائيلي، تقوم على إفراغ غزة من مقومات الحياة.
ويقول الأسمر لصحيفة "فلسطين": "من المعلوم أن (إسرائيل)، ومن خلال أدبياتها الإجرامية والإرهابية، تحلم بأن تستفيق يوماً وترى قطاع غزة وقد ابتلعه البحر. لقد أتتها الفرصة لتدمير القطاع واستباحة أرضه، والعمل الممنهج على إذلال شعبه وتجويعه".
ويحذر الأسمر من أن استمرار خروقات وقف إطلاق النار ستكون له تداعيات مباشرة وقاسية على حياة الغزيين، موضحاً أن هذه الخروقات لا تقتصر على الجانب العسكري، بل تمتد لتشكّل حصاراً معيشياً خانقاً يضيّق سبل الحياة ويعيق عودة المواطنين إلى مناطقهم المدمّرة.
ويضيف: "(إسرائيل) تتعمد عرقلة فتح المعابر الحدودية مع القطاع ما يؤثر بشكل مباشر على إدخال الغذاء، وتأمين المأوى، وتقديم الخدمات الطبية، خاصة في ظل هذا الشتاء القارس الذي يفاقم معاناة عشرات آلاف العائلات المنكوبة".
ويؤكد أن هذه السياسة ليست عشوائية، بل تأتي في إطار استخدام المعاناة الإنسانية كورقة ضغط، بهدف فرض وقائع ميدانية جديدة، وإبقاء قطاع غزة في حالة إنهاك دائم، حتى بعد الإعلان عن أي تهدئة أو اتفاق.
نهج إجرامي
يؤكد الأسمر أن ما يجري في غزة منذ توقيع الاتفاق لا يمكن توصيفه كخرق عابر، بل هو نهج إجرامي ممنهج تمارسه (إسرائيل) بشكل يومي وعلى مرأى ومسمع العالم.
ويقول: "(إسرائيل)، ومنذ لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار، لم تتوقف عن حملات القصف والتدمير، وكأن الاتفاق مجرد غطاء سياسي وإعلامي لمواصلة العدوان، في ظل صمت دولي فاضح وغياب أي إجراءات محاسبة حقيقية".
ويرى أن هذا المشهد يشكّل رسالة خطيرة مفادها أن (تل أبيب) لا تخشى أي عواقب، وأن استمرار سياسة الإفلات من العقاب هو ما يشجعها على تصعيد عربدتها العسكرية دون رادع أو حساب.
وبحسب الأسمر، فإن حكومة الاحتلال تتعمد عرقلة تنفيذ استحقاقات المرحلة الثانية، وتضع العراقيل تباعاً بذريعة الأمن أو شروط إضافية لم تكن جوهرية في الاتفاق.
ويشرح: "تبدأ الذرائع بالمطالبة باستعادة جثة الجندي الإسرائيلي الأخير، ولا تنتهي عند اشتراط تسليم سلاح حماس وتدمير أنفاق غزة، في محاولة واضحة لحصر الاتفاق في مرحلته الأولى فقط".
ويضيف أن المرحلة الثانية، بخلاف الأولى، تحمل استحقاقات سياسية وعسكرية ثقيلة على الاحتلال، أبرزها انسحابات أوسع من القطاع، وتقليص السيطرة العسكرية، وفتح الباب أمام ترتيبات سياسية فلسطينية، وهو ما يتناقض كلياً مع الأهداف الإسرائيلية القائمة على الهيمنة الكاملة.
ويتابع "الاحتلال لا يرى في تعطيل الاتفاق أي خسارة، بل يعتبره مكسباً ميدانياً".
ويوضح أن كل يوم تأخير يعني مزيداً من الدمار، ومزيداً من القتل والتجويع، واستنزافاً للحاضنة المجتمعية في غزة، وهي سياسة مدروسة تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وفرض وقائع جديدة على الأرض.
ويشير إلى أن هذه المقاربة تكشف أن ما يجري ليس ردود فعل عسكرية، بل سياسة إبادة بطيئة وممنهجة تُنفذ بدم بارد.
غياب رادع
يرى الأسمر أن السلوك الإسرائيلي في غزة، وكذلك في سوريا ولبنان واليمن، يعكس حقيقة واحدة: "(إسرائيل) اليوم دولة خارجة عن القانون الدولي والأعراف الإنسانية، وتتصرف وكأنها فوق المحاسبة".
ويضيف أن غياب موقف أوروبي وأميركي جاد، ضاغط ورادع، هو العامل الأساسي الذي يمنح إسرائيل هذه الجرأة، ويجعلها تستمر في اعتداءاتها دون خشية من أي عقاب.
ووفق الأسمر، فإن اتفاق وقف إطلاق النار لم يتحول إلى مسار سياسي ملزم، بل بقي حبراً على ورق في ظل اختلال ميزان القوة، وغياب الإرادة الدولية، واستمرار (إسرائيل) في توظيف الاتفاق كأداة لإدامة العدوان لا إنهائه.
ويختم الأسمر حديثه قائلاً: "للأسف، لا يوجد اليوم من يبكي غزة بصدق، ولا من يحمل القضايا العربية والإسلامية كأولوية فعلية. ما نراه هو إدارة للأزمة لا حلّاً لها، واحتواء للجريمة لا وقفاً لها".